كان لنبأ استشهاد المفكر الإسلامي الفلسطيني د. إسماعيل الفاروقي وزوجته، في اغتيالهما بالولايات المتحدة الأمريكية طعناً بالسكين، وقع الصاعقة على الوعي الإسلامي الجديد، ود. فاروقي هو مطلق نظرية أسلمة المعرفة، وقد كان هذا المسار في أوّل صعوده، حين استشهاده عام 1986، وفي أوج احتياج العقل المسلم المعاصر له، وقد دوّن نظريته رحمه الله في كتابه الشهير أسلمة المعرفة.
ومشابهة بمسيرة د. عبدالوهاب المسيري، ونظريات د. إدوارد سعيد، التي تشترك في منهج إعادة تفكيك عناصر الفلسفة الغربية، ومناقشة تقديسها الكلي، وأين أخطأت ضد المفهوم الإنساني، كان ذلك يشترك لديهم، مع مواجهتهم للفكرة الصهيونية، الصاعدة بقوة في الغرب، والتي لا تزال حتى الساعة، تعمل بفاعلية كبرى، وتحصد نتائجها، رغم أن مفهوم الأنسنة والعدالة المشتركة للأمم البشرية، بما فيهم أتباع الديانة اليهودية، كان قناعة تلك الأسرة من المفكرين العرب.
وإنما قصد منهجهم مواجهة الصهيونية اللاهوتية ثم العنصرية، الذي كان يدعو إلى حماية المجتمع الإنساني والحقوق العربية المضطهدة، من هذه الفكرة وحركتها وداعميها الغربيين، إلا أنّ ذلك لم يكفل الحماية أو التضامن العلمي والفكري لحملة هذا المفهوم، ولعل د. إدوارد سعيد حظي بواقع أفضل، بسبب تضامن الأسرة اليسارية الفكرية، وربما أمور أخرى أكثر من د. إسماعيل الفاروقي، الذي انتهت حياته بهذا المشهد المروع.
ولسنا في صدد حسم دوافع القتل، التي يشوبها الكثير من الشكوك في استهداف د. الفاروقي، وتعطي تجارب التاريخ تبريرا لمفهوم التآمر لنظرية الاستهداف، للشخصيات الفكرية، التي يولد نبوغها في اتجاهات معاكسة، للهيمنة الثقافية المنحازة، والعنصرية المصرة على تجريم الشرق ورسالته الإسلامية ابتداءً، غير أننا اليوم نحتاج أن نستذكر حجم الفراغ والأزمة، التي يعيشها العقل المسلم، لغياب صناعة الفكر الجديد، وتنظيم سؤال المعرفة الإسلامي.
فهو واقعٌ مر قياساً بعدد جمهوره داخل التوجه الإسلامي، أو في دائرة الشعوب المسلمة، المقيمة والمهاجرة، وأن حالة التخلف الواسع، عن مسارات الوعي المعرفي كبيرة جداً، وتحتاج إلى جهود مضاعفة، لكي تتحوّل إلى برنامج عملي مبسط للجمهور ومتعمق للنخبة، يُرشّد به التدين الإسلامي الحديث، الذي لم يُفق بعد من نتائج مشروع مطاردة الحرية، الذي نُفذ ضد الربيع العربي، وما سبقه عبر ثقافة الغلو والانغلاق، الرافضة والطاردة لفكر المعرفة الإسلامي، وقد ساهمت الحرب على الربيع العربي في مضاعفة المأزق.
وهي هنا دلالة عملية مهمة، لفهم ماذا خسر العالم بتخلف المسلمين، نفس النداء الذي وجهه العلّامة أبي الحسن الندوي، في كتابه المعروف، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، مع مراعاة العهد الذي عاشه الندوي وأسئلة المعرفة الإنسانية اليوم، فالانحطاط لا يزال قائماً، ثم جاءت له الموجة الجديدة بتعزيز التخلف عبر التدين الجاهل، أو بسبب الاستنزاف المميت، لثقافة سطحية وانقسامات صراعية، يغذّيها الاستبداد أو جهل المسلمين.
إن في دلالة الترصد الجديد، أو تهميش الإسلام في معسكرات الانحياز الغربي، وفي دلالة الحملات السياسية والإعلامية الموجهة، والمشروع الصهيوني الذي استهدف المبدعين، وحرض عليهم، بغض النظر عن مسؤوليته في الاغتيالات، أمرٌ مهم للغاية في ظل ما تعيشه الأمة من واقع بائس، وهو أن خصوم هذا الشرق وخصوم استقلاله، حريصون كل الحرص، على أن يبقى هذا التخلف وهذا الانحطاط بين المسلمين.
وهنا لسنا نبرر مسؤولية المسلمين عن هذا التخلف، بل العكس، نحن نحفزهم للقيام بمسؤولياتهم، غير أننا نشير إلى أن الكارثة الكبرى، أن حرب أو تهميش أو النيل، من مسارات المعرفة الإسلامية، هي في الحقيقة من أشد الوسائل التي يستعين بها الغرب المنحاز، والصهيونية والاستبداد على تحقيق مآربهم، وأن كل جهد يبذل داخل مظلات العمل الإسلامي، أو في المساحات الإعلامية والثقافية المشتركة، لتحييد علوم المعرفة هو من صالح أولئك الخصوم، ومساعد رئيسي على بقاء الأزمة، وواقع الاضطهاد، والصراعات داخل الشرق المسلم.
في حين أنه كلما بُنيت معالم الطريق الثقافي الجديد، ونهض فكر الأمة، وانتشرت النماذج الواعية لسؤال المعرفة وفكر النهضة المستنير (ونقصد بها كل مسارات، فكر الإحياء الإسلامي، لفهم الحياة والمجتمع والعلوم)، كلما تعززت قوة الممانعة، لمواجهة تلك الهجمة الشرسة، التي يُعاني منها الشرق المسلم، وفي داخله سبب كبير لتمكن المرض الثقافي، الذي يفتح الباب لكل وباء سياسي، أو أمني أو اقتصادي أو تعليمي أو صحي.
فكيف يوقف هذا الهدر، وكيف تُطلق مساعي صناعة الممانعة الثقافية، واستدعاء القيم الحضارية والروح الإنتاجية، والتعاضد الأخلاقي، والإبداع العقلي لفهم مقاصد النص في العمران، والتي تبني أسس وقاعدة المجتمع الجديد، في ظل الواقع السياسي المتدهور، وأزمات المنطقة المشتعلة؟
لقد سبق أن أجبنا على سؤال، لماذا لا يُمكن أن يتحول الفكر الإسلامي التجديدي، ومعادلة المعرفة الإسلامية، تحت وقع المواجهة والأزمات والصراعات المتعددة، إلى صيدلية دواء سحري، عند كل كارثة أو تفصيلاتها.
فمهمة العقل المسلم الذي يطلق رحلة المعرفة لوعي مقاصد الشريعة، وتجربة البشرية، واستيعاب تفوقهم النهضوي المحمود، وخللهم الأخلاقي وأين نجحت القيم لديهم، وأين فشلت بسبب غرائزهم، وأين مدار العقل الاستنباطي المتوازن، هي عملية بحث وحفر معرفي، تحتاج أن تسبِق مدارات التطبيق، كصناعة لمقدمة الفهم السياسي والاجتماعي بسنوات، وهي حصيلة تراكمية مهمة، حين تتاح لها وسائط أوسع ومنابر ومؤسسات تخصص أكبر، فهي تعزز نجاح استنباطاتها، وتشخيصات المرض المجتمعي بين المسلمين أنفسهم، ومع الآخرين.
لكن المشكلة الكبيرة اليوم، هي أن ذات برامج التلقي للخطاب الإسلامي، أو نفوذه في المنابر والمؤسسات الفكرية والإعلامية، غير متحمسة مطلقا لفسح هذه المساحة الضرورية ودعمها، وقد يُبادر لخنقها مقابل مساحة الحوار السياسي، بغض النظر عن مصداقية القضية التي يتبناها هذا الخطاب، وليس المقصود هنا تنحية الكفاح السياسي، إنما عدم احتكاره وبسطه لكل مدارات العقل والفكر المعاصر.
فهي هنا معالجات سريعة، لا تعرف بالضبط ما هو المخرج الذي ممكن أن يساعدها في حل المعضلة، ولا في الانتقال من ساحة معركة دامية نازفة، إلى ساحة استراحة يُضمّد بها الجريح نزفه، ويراجع موقعه، فيُقرر الانسحاب إلى مأمن، حتى يجد في ذاته قدرة على العودة للمواجهة الميدانية، لصالح حقوق شعبه وقضيته وحريته السياسية.
والمشكلة أنه يسعى للجري وهو ينزف، ويرفض مجرد الاستماع لمعادلة أخرى تعيد بناء فكرته، وإمكانياتها في المجتمع وتتلمس الأخطاء التي مكنت لخصمه، وسبب رئيس لهذه الأخطاء، أنه لا توجد له بنية فكرية متكاملة، يَعبر من خلالها إلى الفهم والتقدير الدقيق، للمشهد السياسي والثقافي والاجتماعي، وقدرات الخصوم، وثقافة الشعب الذي يعمل من أجله، وأين ممكن أن يُستوعب فكره ومشروعه السياسي. ولذلك تستمر الخسائر كون هذه الثقافة الإصلاحية مهمشة، في هذا الميدان المحتكر للسياسة، أو أن قيادته رافضة لإعادة صناعة فكرها، ومعرفة رسالتها الإسلامية، وعلاقتها بقراءة العقل والتجربة البشرية.
وهنا تظهر لنا بوضوح أزمة أخرى بدأَ العمل الإسلامي يدركها، بعد أن وصلت إلى عمقه الديمغرافي، وهي ضعف أدوات الوعي الإسلامي أمام أسئلة الوجود والدين والإنسان، وأن خطاب الموعظة الذي لا يُرفض في ذاته ولا يُطلب إقصاؤه، أو خطاب الفقه والفتاوى والمهم كليهما لروح الإنسان المسلم وتعبده.
وإنما الذي يحتاجانه معيار الأخلاق والمصداقية وفهم الواقع لحملته، ومع ذلك فهاذين البابين، يعجزان غالباً عن إجابة الشباب والمجتمع، في أسئلة الفكر والحريات، فتتزايد مساحة الحاجة للمؤهلين لإنقاذ الحائرين، فلا يجدون لهم منبراً مقنعا، إلّا جهوداً فردية غالبها ليس له قدرة ولا إمكانيات.
وهي هنا مؤشر مركزي، كيف باتت معركة الفكر والإيمان العقلي، والرشاد الروحي ضعيفة، أمام مربعات الفراغ الضخمة، التي تملك مدرسة المعرفة الإسلامية أجوبتها، لكن لم تُصنع لها الأرضية ولا المساحة الزمنية، التي تحتاجها لعبور الجيل الجديد، من شباب المسلمين.
لقد كان التصور القديم عن منهج د الفاروقي، في ذهن بعض الشباب العربي، أول ما وصلهم كتابه، نظرية أسلمة المعرفة، أن المقصد هو أن تأخذ هذه العلوم وتبسط عليها مصطلحا أو تكييفا إسلاميا، ثم تكون إسلامية، وهو تصور سطحي ساذج، فالمهمة هنا عند د. الفاروقي ومفكري المعرفة والنهضة، أن تستوعب هذه المعادلات المعرفية، وتؤسس عليها بناءك التشاركي والنقدي التصحيحي، وتبعثها من جديد لصالح الشرق وصالح الإنسانية، فيقوى مجتمعك بها، وتزدهر أروقة المعرفة، وترتفع فرص الإنقاذ، وحسن بناء الأوطان، ومساحة العدالة الاجتماعية وسلامتها من الصراعات، ثم يهتدي بها العالم، ليدرك الفرق بين المعرفة العلمانية الغربية، في شقها الجاحد للمساواة الإنسانية، والمغرق في إنكار الروح، رغم أن الوجودية الغربية لم تخرج من عنصريتها العرقية والدينية، وبين المعرفة المؤمنة المتفوقة علميا والمطمئنة الروح، التي تقدم دليلها العملي لا الوعظي لتسعد بها البشرية.
المصدر: “مدونات الجزيرة”.