الأمة نسيت جراحاتها وتعالت على مصابها لتلبي نداء الواجب الديني في حماية مقدساتها والدفاع عن القدس
النبي لم يصف الأمة بالموات ولا بانعدام مشاعرها تجاه قضاياها لكنها ستقدم جهوداً غير فاعلة لا تضر العدو
خفة الأمة الغثائية وسطحيتها تتجلى في سطحية جهودها ومواقفها وعليها معالجة ذلك بالعلم والهمة
«بن جوريون»: قوتنا ليست في سلاحنا النووي وإنما في تفتيت 3 دول عربية كبيرة.. العراق وسورية ومصر
المقدسات لن تتحرر بالمسيرات رغم أنها أثبتت للعدو والصديق أن الأمة لم تمت ولم تنس قضاياها
كم أسعد النفس وأقر العين هذه الحشود الهادرة التي هبت لنجدة القدس! فما أن أعلن «ترمب» القدس عاصمة للكيان الصهيوني إلا وتجددت الدماء في أوصال هذه الأمة، فخرج الشباب من الرجال والنساء، ومعهم الأطفال والكهول، والمرضى والأصحاء، يعلنون في نفير عام أن هذه الأمة لم تمت، ولم تغفل عن قضايا دينها، برغم ما تقاسيه الأمة من هموم شخصية، فهي تعاني من الاستبداد والتهميش، وتكابد من أهوال ربيع ثوري كاد ينتهي إلى خريف عاصف يخدم الطغاة، ويعزز استبدادهم، ويقضي على أحلام الربيع الذي احتُضِر وهو في مهده وصباه، نسيت الأمة هذه الجراح، وتعالت على هذا المصاب، لتلبي نداء الواجب الديني في حماية مقدساتها والدفاع عنها.
نعم، كانت هبَّة مبهجة، أحيت الأمل من جديد، وعوّقت طموحات الحمقى الذين حملهم الزهو بقوتهم المتفردة على التأله على هذه الأمة، لكن ما مصير هذه الروح التي تسري الآن في أوصال هذه الأمة؟ وكيف نجعلها روحاً متيقظة حية لا يعقبها موات؟
هذا ما نحاول الإجابة عنه في السطور القادمة:
لقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأمة من مصير مشؤوم، من أن تتداعى عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، وليس ذلك لقلة عددها، ولا لانعدام ما تقدمه من جهود لخدمة دينها وأمتها.
لم يصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالموات، ولا بانعدام مشاعرها تجاه قضاياها، فقد بيّن صلى الله عليه وسلم أنها ستقدم جهوداً، لكنها جهود غير فاعلة، جهود لا تضر العدو، ولا تفرح الصديق، وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بأنها مثل غثاء السيل، وغثاء السيول هو ما يطفو على ظهر مياهها من القش والحطب والخشب البالي، والأوراق المتساقطة، وهذه الغثائيات تشترك في أربعة أمور: الخفة والسطحية، عدم التجانس، فقدان الهدف والغاية من مسيرها، فقدان الطريق المحدد لسيرها.
أولاً: الخفة والسطحية:
تتجلى خفة الأمة الغثائية وسطحيتها في سطحية جهودها ومواقفها، وعلاج هذه السطحية بالعلم والهمة، فلم يتمكن الكيان الصهيوني مما وصل إليه إلا بهذين الأساسين معاً (العلم والهمة)، وفي هذا الإطار لا يمكننا أن نبتهج ببعض هذه الحشود التي خرجت ترفع عقيرتها: «يا ترمب يا جبان يا عميل الأمريكان» في هتاف يحمل على سخرية الكبير والصغير، ويدل على خفة عقل أصحابه!
يمكننا أن نجزم بأننا تعافينا من مرض الخفة والسطحية، يوم لا نرتب جهادنا على أن ينتهي ونعود إلى بيوتنا، فالخارج إلى مسيرة عليه أن يتخلى عن فكرة متى يعود إلى بيته، فإنه إذا كان يشغله هذا الأمر فسوف يتحسس خطواته بحيث لا تغضب من بيده العصا.
على الخطيب في المسجد كذلك أن يتخلى عن الفكرة ذاتها، حتى لا يتحسس كلماته، فيُميّع القضية إيثاراً للسلامة.
ثانياً: عدم التجانس:
القش والحطب والخشب البالي والأوراق المتساقطة، لا تجانس بينها، فهي أجناس متباينة، جمعها حمل ماء السيل لها، ولولا ذلك ما اجتمعت، وفي هذا الإطار ليس المطلوب من الأمة حتى تتفادى هذا المرض أن تصبح نسخاً كربونية، يكرر بعضها بعضاً، ولكن على الأقل أن تتقارب وتتعايش، بحيث يمكنها التعايش في غير حالة دفع السيل لها، عليها ألا تكون متخاصمة متشاحنة إلا إذا دفعتها قوة السيول، فعليها أن تتخلص من الأحقاد والبغضاء والكراهية فيما بينها، فإن فساد ذات بينها يجعلها مضغة سهلة في يد أعدائها، عليها أن تتعلم من الثور الأسود ساعة قال: «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض»!
عليها أن تتذكر قول الله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ {103}) (آل عمران)، كما عليها أن تتجنب مصير قوم قال الله تعالى فيهم: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ {105}) (آل عمران).
عليها أن تعرف أن أعداءها يقولون كما جاء في «بروتوكولات حكماء صهيون»: «إننا لن نستطيع التغلب على المسلمين ما داموا متحدين دولاً وشعوباً تحت حكم خليفة واحد، فلا بد من إسقاط الخلافة وتقسيم الدولة الإسلامية إلى دويلات ضعيفة لا تستطيع الوقوف في وجهنا فيسهل علينا استعمارها».
ويقول «ديفيد بن جوريون»، أول رئيس وزراء لـ»إسرائيل» في الفترة (1948 – 1954م): «إن قوتنا ليست في سلاحنا النووي، وإنما في تفتيت ثلاث دول عربية كبيرة من حولنا هي العراق وسورية ومصر إلى دويلات متناحرة على أسس دينية وطائفية، ونجاحنا في هذا الأمر لا يعتمد على ذكائنا بقدر ما يعتمد على جهل وغباء الطرف الآخر»!
ويقول وزير المستعمرات البريطانية في وقته «أوريسي جو»: «إن سياستنا تهدف دائماً وأبداً إلى منع الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامي، ويجب أن تبقى هذه السياسة كذلك».
ويقول المستشرق «لورانس براون»: «إذا اتحد المسلمون في إمبراطورية عربية، أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً، أو أمكن أن يصبحوا أيضاً نعمة له، أما إذا بقوا متفرقين فإنهم يظلون حينئذ بلا وزن ولا تأثير؛ يجب أن يبقى العرب والمسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير».
ويقول «لويس التاسع»، ملك فرنسا الذي أسر في دار ابن لقمان بالمنصورة، في وثيقة محفوظة بدار الوثائق القومية في باريس: إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال الحرب وإنما باتباع ما يلي:
– إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين.
– عدم تمكين البلاد العربية والإسلامية أن يقوم فيها حكم صالح.
– إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والنساء حتى تنفصل القاعدة عن القمة.
– الحيلولة دون قيام جيش مؤمن بحق وطنه عليه، يضحي في سبيل مبادئه.
– العمل على الحيلولة دون قيام وحدة عربية في المنطقة.
– العمل على قيام دولة غربية في المنطقة العربية تمتد لتصل إلى الغرب.
ثالثاً: فقدان الهدف والغاية من مسيرها:
لا بد من التخطيط والتكتل ودراسة الموقف لوضوح الرؤية، ومن ثم وضع الآليات المناسبة، فتعلم الأمة أن مقدساتها لن تتحرر بالمسيرات، لكن ليس معنى ذلك أن هذه المسيرات لن تحرز هدفاً، فكما قلنا: إنها أثبتت للعدو والصديق أن الأمة لم تمت ولم تنس قضاياها، فإذا عرفت ذلك لم تشغلها الوسائل العاجلة عن الوسائل المرحلية، والمستقبلية التي يتحقق بها ما لا يتحقق بغيرها.
رابعاً: فقدان الطريق المحدد لسيرها:
وصف النبي صلى الله عليه وسلم الأمة في هذه المرحلة بأنها غثاء السيل، ولم يقل: غثاء النهر أو البحر مثلاً، وهذا ما يزيد في حيرة وغوغائية هذه الأمة، فماء النهر له مصب معلوم، ومجرى مرسوم؛ لذلك فمياه الأنهار تعمر وتثمر وتفيد، أما مياه السيول فليس لها مصب معلوم، ولا مجرى مرسوم، ولا طريق معروف، فهي تسير كيفما اتفق؛ لذلك فهي تخرب ولا تعمر، تهدم ولا تبني، كذلك الأمة في هذه المرحلة، يهدم بعضها بناء بعض، ويخرب بعضها عامر بعض، فهي تقدم جهوداً، لكنها جهود متضاربة، كمثل رجل تعطلت سيارته، فطلب من الناس مساعدته، فهب عشرة أفراد لنجدته يدفعون سيارته، خمسة من الأمام وخمسة من الخلف، والنتيجة أنه لن تتحرك السيارة برغم الجهد الهائل المبذول، ولو أن ثلاثة فقط أو اثنين قاموا بدفعها في اتجاه واحد، لكان عملهم أنجع وأنجح.