برغم آلامها وصعوباتها، تبقى ثورة، وبرغم معاناتهم وتدهور ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية يصرّ التونسيون على ثورتهم ويدفعون غالياً ثمن الحرية، ثمرة سبع سنوات منذ خرجوا إلى الشوارع يطالبون بالكرامة وبحياة جديدة تليق بهم وترقى بهم إلى مصاف نظرائهم ممن ركبوا قطار الانعتاق من براثن الدكتاتوريات، ولذلك يعود التونسيون إلى الشارع الذي شهد ولادتهم الجديدة في مثل هذا اليوم من كل عام، برغم أن الأحوال تغيرت هذا العام بالذات، وربما يشكل خروجهم هذه المرة تحولاً عميقاً في مسار الثورة التونسية، في محاولة لتحقيق ما تبقى من مطالب 14 يناير 2011، أي الشغل والكرامة الوطنية، بعدما تحققت الحرية.
توجد مداخل وزوايا نظر عديدة لتقييم رحلة السنوات السبع من عمر الثورة التونسية، تختلف باختلاف مواقع أصحابها، من الداخل التونسي أو خارجه، وبمدى مواقفهم من التغيرات الكبرى عموماً، واستعدادهم الفكري لتقبل متغيرات حاسمة وتحولات مهمة في حياة الشعوب.
وما يدعو لذلك أو يعبر عنه في الظاهر هو ما ذهبت إليه بعض الأصوات الإعلامية العربية أخيراً تعليقاً على موجة الاحتجاجات التي تشهدها تونس، إذ بدت كأنها تحقق سبقاً كبيراً بإعلان فشل التجربة التونسية وسقوطها في أتون العنف، تماماً كما حدث في بلدان عربية أخرى، وكأنها تعود للتأكيد على فشل الثورات ومقايضة الناس بالأمن والخبز مقابل الحرية، لكن عودة الهدوء سريعاً أظهرت خطأهم.
التونسيون، برغم انغماسهم في متابعة شؤونهم، ردوا بأنها الحرية، وبأنهم يملكون قرار خروجهم إلى الشارع متى شاؤوا ويعارضون حكامهم ويشتكونهم إلى المحاكم ويسقطون قراراتهم بل ويسقطون حكومات بأكملها ويفرضون على الحكام تغيير أساليب إداراتهم للبلاد ويعزلون وزراء ومسؤولين.
الصحف والإذاعات في تونس تتكلم وتنتقد وحتى تشهِّر وتناقش كل المواضيع من دون محرمات أو خطوط حمراء، والناس في المقاهي يتجادلون ولا ينظرون وراءهم خوفاً من واشٍ أو مخبر، بل وصل الأمر عند البعض إلى اعتبار أن منسوب الحرية تخطى كل الحدود، وهو يستفز يوماً بعد آخر تابوهات أخلاقية وسياسية فكرية وعادات وتقاليد، والأهم هو أنه يؤسس لها قوانين تحميها وتهيّئ لمنطقة أرحب لممارسة الحريات، وفضاء جديد يحتكم فيه المواطنون إلى الدستور والقانون وليس إلى مرجعياتهم الفكرية والتاريخية والأخلاقية، برغم أن المجتمع لا يزال غير مهيأ لذلك، لكن الثورات تتوقع الآتي وتستعد ليوميات جديدة في حياة المواطنين، بِما يعكس زخماً فكرياً في مسار الثورة التونسية، برغم صعوباتها المعروفة.
لكن كل هذه المكاسب، وأهمها اتفاق الجميع على وضع آليات تحمي الديمقراطية نهائياً من إمكانية التراجع والعودة إلى الماضي، لا تمنع التونسيين من التفكير في مشاكلهم بـ”أرجل ثابتة على الأرض” كما يقول المثل الفرنسي، أي بواقعية لا تنكر المشاكل والعوائق، وإنما تواجهها مباشرة وتعمل على تفكيكها وبحث أسبابها بهدف معالجتها.
ولذلك عاد التونسيون إلى الشارع، إحساساً منهم بالخطر، بعد سبع سنوات من ذلك الموعد الذي غيّر وجه التاريخ العربي، فقد رفعوا شعار “شغل حرية كرامة وطنية”، ولكنهم لم يظفروا بالشغل ولا بالخبز إلى حد الآن، واستبطنوا أن إهمال ركن من أركان شعار الثورة قد يسقط كل الباقي ويتهدده جدياً، وفهموا أنه قد يكون آن الأوان لتنبيه الجميع بأن الناس، وشبابهم بالذات، واعون بحجم الأزمة وبأن من توالوا على أمر السلطة إلى اليوم لم ينجحوا في بناء أول أحجار التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبقيت الجهات المهمشة مهمشة، والمنسية منسية، وبقي العاطل عن العمل عاطلاً والفقير فقيراً، وهذا ليس مجرد إخفاق حكومي وإنما هو تهديد للثورة ومطلبها.
وقطعت الثورة حتى اليوم خطوات عملاقة، تعكس رغبة التونسيين المعروفة في إنهاء الأمور العالقة بسرعة، وتأسست أغلب المؤسسات الدستورية وستستكمل ما بقي منها هذا العام، خصوصاً المحكمة الدستورية (انتهى قانونها في انتظار انتخاب هيئتها) وبعض الهيئات الأخرى، وسيدخل التونسيون منتصف العام في أهم تجارب وخيارات الثورة، الانتخابات البلدية أي الحكم المحلي الذي سيضع حداً لتغوّل المركز وسيطرته على القرار، ويتوقع كثيرون أن يتغير المشهد التنموي بصفة جذرية، إذ سيُصبِح القرار بيد المواطنين في الجهات والأقاليم، ينجزون تصورهم لشوارعهم ومدارسهم وحياتهم اليومية بشكل مستقل عن الوزارة والإدارة في العاصمة، وهو ما يمكن أن يحدث تحولاً في المفهوم التنموي وفي شكل بناء الدولة أصلاً.
ولكن ملّ التونسيون من الصراعات السياسية ونزاعات السيطرة على الحكم، وخلافات الأحزاب وحكايات أروقة الحكم ولوبيات السياسة، فقد توالى عليهم سبعة رؤساء حكومات منذ الثورة، وأكثر من عشر حكومات، إذا تم احتساب حكومتين للحبيب الصيد وحكومتين ليوسف لشاهد.. إلخ، بما يعطي معدلاً لرئيس حكومة كل سنة وحكومة كل ستة أشهر تقريباً، وهو ما يفسر عدم الاستقرار السياسي وفشل تحقيق شيء اجتماعي ملموس، لكنه يؤكد أيضاً صراعاً واضحاً على السلطة وتنازعاً متواصلاً ملّه التونسيون، ولذلك رفضوا الخروج في ألمانيا للاقتراع على من يمثلهم، وربما يتكرر الأمر في الانتخابات البلدية المقبلة، بحسب مؤسسات سبر الآراء.
ويبقى على الأحزاب والحكومة، والدولة عموماً، أن تفهم هذه الرسائل سريعاً وأن تفهم أن عدم انتباهها لمغامرة الشباب في البحر بحثاً عن أمل جديد هو أكبر إخفاقاتها على الإطلاق، وأن صبر الناس في الشوارع والأحياء الفقيرة بدأ ينفد، ولكنها رسالة إلى أصدقاء الثورة أيضاً بأن هذا الوقت هو وقت التعبير عن هذه الصداقة.
المصدر: “العربي الجديد”.