رغم مضي ما يقرب من قرن على التحديث العربي، والاحتكاك بالفكر الغربي، وانتشار مفاهيم العصرنة؛ كان حجم التوقعات من الغرب يفوق التصور، بل هناك من تماهى مع المستعمر: لغة وزيا ونحلة كما وصف ابن خلدون علاقة المغلوب بمن استلب أرضه،
وبانتهاء الدولة العثمانية التي كانت حائط الصد والإطار الجامع لأمم الشرق الإسلامي، ومحاولة من ظهر لديهم الاتجاه القومي، الذي أخذ صورة التتريك مرة وواجهة العروبة مرة أخرة حتى انفرط العقد وتهاوت الرابطة الجامعة.. بدأ التيار القومي يسقط الانتماء للإسلام بل وينظر إليه على أنه سبب التخلف، فطغت على طاولة البحث مقولات مستقبل الثقافة والأحزاب الليبرالية، وأخذت الجامعات تردد مقولات الاستشراق، وتسلل إلى العقل العربي تنازع السلطة الدينية والمدنية على حد سواء!
فقد جاء من ينكر أهلية الإسلام للحكم مثل الشيخ علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم، جاء ذلك بعدما انزوى الأزهر والزيتونة والقرويين وتقدم في ميدان الثقافة والفكر الجامعات المهيلكة وفق رؤية الاستلاب الحضاري، ودارت معارك الهوية بين الطرفين، حتى كانت حرب فلسطين فكشفت عوار الفكر الوافد؛ بل وتبين خيانة بعض رموزه، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها حتى حين، انهار المشروع القومي بما دار في المنطقة من صراعات الهوية والانتماء، وتغلغلت في الأمة أدواء التشظي والانكفاء على الذات؛ فتحول العرب من القومية في إطارها الجامع، إلى مفاهيم قُطرية ونعرات عصبية؛ فهذا سرياني في العراق والشام وآخر فرعوني، وذاك أمازيغي، تشرذم العرب وتفرقوا أيدي سبأ.
حتى الجامعة العربية جاءت تحمل عوارض مرضها في قرار إنشائها؛ حيث وجدت لتقطع الطريق عن القدس والأقصى، وتنتهي اللطمية العربية عند صباح ساء فيه المنذرون؛ الخامس من يونيه؛ حيث أرطال من الرايات المنكسة والأحلام المقبورة لتندثر آمال العرب في بناء إطار عربي يقاوم سرطان الصهيونية الذي تغلغل في الجسد العربي، تواجدت يوم بعاث كل فترة من الزمن، كأننا لم نكن أبناء لسان عربي مبين، أو لم نكن في أغلبيتنا مسلمين موحدين، ومن يومها والانتكاسة العربية مشجب نعلل به التردي الحضاري والسقوط في غياهب الجب الذي وقعنا فيه جميعا.
وبعد مضي تلك السنوات؛ منا الرافعي ومنا طه حسين، وما تزال المعركة باللسان وقد يغري النزق البعض فتنزلق إلى هاوية الأسنة.
وإزاء ذلك انهارت نظم التعليم، وصارت معاهد التربية تخرج أشباه متعلمين، وساد الحشو، وقل الإبداع، وعدنا نكرر عبارات “الأصالة والمعاصرة”، حتى علقت على واجهات المؤسسات العامة، “الأصالة والمعاصرة” بل و”العلم والإيمان”!.
ومن جراء ذلك توارت الدافعية تحت ركام القابلية للخنوع وكراهية التغيير، حتى ظهر فينا من احترفوا المنابر فاحتكروها، لتسلمنا تلك الحالة إلى فقدان الوعي بسنن التاريخ وآلياته في التغيير.
الخروج من الأزمة
الخروج من أزمة الأمة ومعوقات نهضتها يحتاج إلى إفراغ الوسع وبذل الجهد على عدة مستويات:
ا- أن نبدأ بالتربية المنهجية وفق ضوابط نستلهمها من رؤيتنا الشرعية والتعامل مع آليات العمل التربوي يحتاج الرواد المخلصين الذين تتوافر فيهم القدوة مع القدرة على أن يكونوا القدوة الصالحة.
٢- تنقية مناهج التعليم من الحشو المفرط، والبعد عن أساليب الترهيب والتنفير التي فرغت معاهد العلم من الأجيال المبدعة.
٢ -أن ننتبه إلى خطورة وسائل الإعلام؛ فالمادة المقدمة للأطفال والشباب لا تركز على الانتماء ولا تبث فيهم الشعور بالشهود الحضاري.
٣- تفعيل العمل العربي المشترك، وأن تهتم الدول بصياغة عقد اجتماعي وفق رؤية منهجية للتخلص من تبعات الهزيمة والانسحاق أمام الآخر.
٤- أن يعاد إحياء الوقف بجانبيه الخيري والأهلي، فهو مؤسسة ضمنت للتربية وسائل الدعم المادي.
٥- أن تفعل منظمات المجتمع المدني، ويعالج ما يتعثر منها وفق ضوابط رقابية.
٦- أن يدار حوار بين مكونات الأمة من أجل إحداث نوع من التواصي بالمعروف.
وفي النهاية لا بد من دق ناقوس الخطر بأن الأمة على مفترق طرق؛ فإما أن تعي دورها ومناط التكليف من وجودها، وإلا تذهب ريحها كل مذهب.
فالوعي بخطورة المرحلة يستدعي نزع فتيل النار الذي يوشك أن ينفجر في أقرب لحظة، وأن يمنع الدهماء من مخاطبة عقول الشباب، وأن يتم التخلص من دوافع الاحتراب التي عمت بها البلوى؛ فالعالم من حولنا لا يحترم غير الأمم الناهضة التي تملك فرض إرادتها وفق توجهاتها الأيدولوجية، وليعلم العرب أنهم مسئولون عن مهمة التبليغ بما كانوا عليه شهداء أمام الله.