تحدثنا في مقالات سابقة عن السمعة الحسنة، وأنها أحد متطلبات ديننا الإسلامي الحنيف، وليس أدل من ذلك من دعاء الخليل إبراهيم عليه السلام ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآَخِرِينَ﴾ (الشعراء: 84)، وفيها دعوته عليه السلام بأن يجعل الله سبحانه وتعالى له ثناءً حسناً، وإذا كانت السمعة الحسنة وأن تكون موضع ثقة عند كل من يحيطون بك مطلباً عاماً لكل مسلم، فإن الحاجة إليهما أشد وأكثر إلحاحاً عند التاجر، فالتاجر لا بد أن يكون موضع ثقة في مجتمعه الصغير والكبير؛ لأن ثقة التجار وثقة الناس أحد أهم عوامل النجاح لكل تاجر، بل يمكن أن نعدها رأسماله الحقيقي، ووجه الصعوبة الحقيقي في الحصول عليها أنها لا تباع ولا تشترى، ولكنها حصيلة ونتاج سنوات من الصدق والأمانة والوفاء بالوعد وحسن التعامل، وما أحلى هذه الثقة عندما يزينها حب الخير للناس وحب الوطن.
وقد ضرب أهل الكويت الكرام أمثلة رائعة في اكتساب ثقة من يتعاملون معهم والحفاظ على السمعة الحسنة في مجتمعهم التجاري الصغير والكبير، وهذا ما سوف نستعرضه في ذكر هذه القصة الواقعية، التي توضح حرص التاجر الكويتي على الأمانة والشرف والنزاهة ليكون موضع ثقة بين أقرانه.
وخلاصة القصة أن التاجر جاسم محمد حمد بودي بدأ حياته العملية تاجراً صغيراً كغالبية أبناء جيله من التجار، وبالصبر والأمانة والمثابرة وبذل المجهود توسعت تجارته، وغدا من كبار التجار في الخليج العربي في زمانه، وأصبح يمتلك محلاً تجارياً في المحمرة بإيران، ومنه كان يصدر التمور إلى الهند وعدن وسواحل غرب أفريقيا، وقد نمت تجارته نمواً كبيراً.
وكان التاجر جاسم بودي من الشخصيات التجارية المعروفة بمكانتها الكبيرة بين التجار، بل كان موضع ثقتهم وحبهم جميعاً، ولذلك لم يجد نواخذة الغوص على اللؤلؤ أفضل منه، ليحل محل والده –يرحمه الله– في تحصيل الرسوم التي كان متعارفاً عليها في ذلك الوقت للحاكم من النواخذة، وكانت تسمى “قلاطة الغوص” (حصة البحار في رحلات الغوص بعد خصم ما عليه من الدين، وجمعها “قلاليط”، وتختلف قلاليط البحارة فيما بينهم، فبعضهم له قلاطة والبعض قلاطة وربع، والبعض قلاطتان حسب طبيعة عمله).
وقد قام بهذه المهمة بأمانة وشرف ونزاهة، فكان لديه دفتر خاص يدون فيه ما يدفعه النواخذة طواعية؛ لتسليمه في نهاية موسم الغوص للحاكم، وكان لذلك أكبر الأثر في نفوس النواخذة، فحاز المزيد من ثقتهم وحبهم له.
وأما عن دوره الوطني، فعندما نشبت الحرب العالمية الأولى، انقطعت حركة الملاحة في الخليج العربي، وتوقفت السفن التي تجلب المواد الغذائية من الهند وسواحل أفريقيا وعدن، فتوقف بذلك شريان التجارة مع العالم، وعاشت الكويت أزمة غذائية كبيرة.
وقد كشفت تلك الأزمة معادن أصيلة وقلوب ممتلئة بالرحمة والرأفة بالذين عز عليهم الغذاء والماء فيها، ومن هؤلاء ظهر معدن المرحوم جاسم بودي، عندما رفض أن يتورط في المتاجرة بآلام الناس وأزماتهم، ويذكر له التاريخ، ويشهد له الناس أنه رغم توقف حركة الملاحة استطاع جلب كمية كبيرة من الأرز، بلغت ستة آلاف كيس، ثم قام ببيعها للمحتاجين بقيمة رأسمالها دون أن يكسب روبية واحدة منها، مع أنه كان بإمكانه تحقيق أرباح خيالية من هذه الصفقة.
وهكذا ضرب لنا التاجر جاسم بودي رحمه الله نموذجاً رائعاً من الاعتماد على النفس، والأمانة والنزاهة، كما امتزج ذلك الطموح والنجاح بالإحسان وفعل الخير وحب الوطن.
www.ajkharafi.com