تناول النص القرآني من جهة ما يرشد إليه في جوانب تحقيق العدل في المجتمع، وتنظيم العلاقات الداخلية والخارجية فيه، وفهم هذا النص فهمًا تستخرج به مناهج الحكم وخطوطه العريضة، وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وما يتعلق بذلك.
ويتناول بالدراسة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والأسس العامة التي تقوم عليه علاقات الناس بعضهم ببعض، وعلاقة الأمة بغيرها من الأمم، وهو ما يعرف ( بالعلاقات الدولية)، كما يتناول أثر المنظومات الاقتصادية الإسلامية، والاجتماعية الإسلامية، وكذلك النظرة الفلسفية الإسلامية لأصول الحكم ومصادره.
ومن الطبيعي أن يعترض على هذا المصطلح العلمانيون الذين ينكرون وجود علاقة بين الدين والحياة عمومًا.
أهمية الموضوع
القرآن هو الكتاب الخاتم الذي أودع الله فيه خلاصة الرسالة السماوية وأسرار الكتب الإلهية ما يكفل لحياة البشر استقامة منهجية وصماما يأمن فيه أصحابه من انحرافات الطريق وغوائلها.
ومن مناهج هدايته ( خريطة) تصل بها إلى سيادة الدنيا وسعادة الآخرة، قال تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، فهذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض: أفرادا وأزواجُا، وحكومات وشعوبًا، ودولًا وأجناسًا، ويقيم هذه العلاقات على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى ولا تميل مع المودة والشنآن، ولا تصرفها المصالح والأغراض. الأسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه، وهو أعلم بمن خلق، وأعرف بما يصلح لهم في كل أرض وفي كل جيل، فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الإنسان.
القيادة القرآنية
كما أن التخبط الذي عانى منه المسلمون يعود في جزء كبير منه إلى غياب القيادة القرآنية عن مواطن التأثير، وتلمس معالم النهضة من مصادر أخرى ملوثة.
وإن مجرد اجترار التفسير التراثي للقرآن العظيم، لم يعد كافيًا في معالجات الواقع المعقد، ومن هنا صارت الضرورة داعية إلى إعادة التفسير المؤصل في محاولة لإيجاد الحلول القرآنية، واستخراج المناهج الربانية في إدراك المبتغى الشرود.
وإذا كان تلمس هداية القرآن واجبًا في كل عصر، فهو أوجب في عصرنا، الذي يتسم بالتعقيد والتشابك أكثر من أي عصر مضى.
السوابق العلمية
ومن أبرز السوابق العلمية في هذا المجال ما قدمه ابن برجان في كتابه ” تنبيه الأفهام إلى تدبر الكتاب الحكيم وتعرف الآيات والنبأ العظيم” فقد قدم حلولا من القرآن لواقع أمته الذي عاشه في احتلال القدس من الصليبيين.
وذلك فيما حكاه عنه ابن كثير، قال: “قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة في الروضتين: وقد تكلم شيخنا أبو الحسن علي بن محمد السخاوي في تفسيره الأول، فقال: وقع في تفسير أبي الحكم الأندلسي – يعني ابن برجان – في أول سورة الروم إخبار عن فتح بيت المقدس وأنه ينزع من أيدي النصارى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة. قال السخاوي: ولم أره أخذ ذلك من علم الحروف، وإنما أخذه فيما يزعم من قوله {الم * غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين} [الروم: 1، 2] فبنى الأمر على التاريخ كما يفعل المنجمون، ثم ذكر أنهم يغلبون في سنة كذا، ويغلبون في سنة كذا، على ما تقتضيه دوائر التقدير. ثم قال: وهذه نجامة وافقت إصابة، إن صح أنه قال ذلك قبل وقوعه، وكان في كتابه قبل حدوثه، قال: وليس هذا من قبيل علم الحروف، ولا من باب الكرامات ; لأنها لا تنال بحساب. قال: وقد ذكر في تفسير سورة القدر أنه لو علم الوقت الذي نزل فيه القرآن لعلم الوقت الذي يرفع فيه.
قلت: ابن برجان ذكر هذا في تفسيره في حدود سنة ثنتين وعشرين وخمسمائة، ويقال: إن الملك نور الدين أوقف على ذلك فطمع أن يعيش إلى سنة ثلاث وثمانين ; لأن مولده في سنة إحدى عشرة وخمسمائة، فتهيأ لأسباب ذلك حتى إنه أعد منبرا عظيما لبيت المقدس إذا فتحه الله على يديه.” البداية والنهاية ط هجر (16/ 593).
وفي القرن العشرين ظهر الكواكبي، والأفغاني، ومحمد عبده، ورشيد رضا من أساطين هذه المدرسة.
لكن لا بد من ضوابط تضمن رشادة هذا اللون من التفسير حتى لا يؤدي إلى انحرافات وخرافات باسم التفسير، وبخاصة أن الانحراف في هذا المجال شديد الخطر، ومن هذه الضوابط:
أولا: الاضطلاع بالعلوم التي قرر العلماء وجوب اتصاف المفسر بها عمومًا، وهي علوم يتفاوت فيها الناس، يقول الشاطبي: “هذه المعارف تارة يكون الإنسان عالما بها مجتهدا فيها، وتارة يكون حافظا لها متمكنا من الاطلاع على مقاصدها غير بالغ رتبة الاجتهاد فيها، وتارة يكون غير حافظ ولا عارف؛ إلا أنه عالم بغايتها وأن له افتقارا إليها في مسألته التي يجتهد فيها؛ فهو بحيث إذا عنت له مسألة ينظر فيها زاول أهل المعرفة بتلك المعارف المتعلقة بمسألته؛ فلا يقضي فيها إلا بمشورتهم، وليس بعد هذه المراتب الثلاث مرتبة يعتد بها في نيل المعارف المذكورة” الموافقات (5/ 44).
ثانيًا: اطلاع من يقوم بهذا اللون من التفسير، ومزاولته لها أحيانًا، ومجالسته لأقطاب العاملين فيه، وعلمه بمذاهبها وتياراتها، وأحزابها، ورموزها، واطلاعه على مواطن الفساد والخلل.
يقول الشيخ محمد عبده: ” فلا بد للناظر في هذا الكتاب من النظر في أحوال البشر في أطوارهم وأدوارهم، ومناشئ اختلاف أحوالهم، من قوة وضعف، وعز وذل، وعلم وجهل، وإيمان وكفر، ومن العلم بأحوال العالم الكبير علويه وسفليه، ويحتاج في هذا إلى فنون كثيرة من أهمها التاريخ بأنواعه.
قال الأستاذ الإمام: أنا لا أعقل كيف يمكن لأحد أن يفسر قوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين} (2: 213) الآية – وهو لا يعرف أحوال البشر، وكيف اتحدوا، وكيف تفرقوا؟ وما معنى تلك الواحدة التي كانوا عليها؟ وهل كانت نافعة أم ضارة؟ وماذا كان من آثار بعثه النبيين فيهم.
أجمل القرآن الكلام عن الأمم، وعن السنن الإلهية، وعن آياته في السماوات والأرض، وفي الآفاق والأنفس، وهو إجمال صادر عمن أحاط بكل شيء علما، وأمرنا بالنظر والتفكر، والسير في الأرض لنفهم إجماله بالتفصيل الذي يزيدنا ارتقاء وكمالا، ولو اكتفينا من علم الكون بنظرة في ظاهره، لكنا كمن يعتبر الكتاب بلون جلده لا بما حواه من علم وحكمة. تفسير المنار (1/ 20).
ثالثًا: ألا يقتحم المفسر هذا المجال وهو مسكون بمقررات معرفية مسبقة، ولا يريد من القرآن إلا تلمس ما يؤيد هذه المقررات.
رابعًا: أن يتجنب القطع فيما لا يتأيد بالأدلة القطعية.
—–
* المصدر: إسلام أون لاين.