أحد أهم الأفكار التي بررت الدفع لتأسيس برنامج المتطوعين في الأمم المتحدة Volunteers Program أن مستوى تطلعات الشعوب من حكوماتها بات أعلى من قدرتها على تلبية الحد الأدنى من هذه التوقعات فضلاً عن التطلعات، عدا ما ينطوي عليه الأداء الرسمي الحكومي من ترهل وبيروقراطية وأشكال الفساد، وأمراض العمل الرسمي التي لا تخفى مؤشراته السلبية على كل متابع، وبرغم وجود بعض المنجزات المعقولة فإنها في مجملها تشي بالتعثر المستمر وتزايد السخط والإحباط.
لذلك، فإن الاستثمار في المجتمع المدني باعتباره جسماً تطوعياً ليس من قبيل الترف أو تعبئة الفراغ أو كسب النجومية وتحسين السمعة، بل إنه عمل أصيل في منظومة بناء الدول، وهو كذلك تعبير واضح عن المواطنة والانتماء للدولة أرضاً وكياناً ودستوراً، وحياة المجتمع المدني تعكس الحيوية التي يعيشها الناس ومستوى الإنتاج والفاعلية التي على قاعدتها تنمو المجتمعات وتتطور.
بعيداً عن الإغراق في التنظير، استوقفني في معرض اطلاعي على بعض الأدبيات مقولة لـ”نيلسن” يتحدث عن كون “مؤسسات المجتمع المدني مخلوقات غريبة في غابة الديمقراطية”! لأنها مؤسسات خرجت من رحم الرأسمالية القائمة على الأنانية والنزعة الفردية وتكريس الثروة، فهو يراها كائن غير متسق مع السياق الديمقراطي، إلا أن التحولات والنسخ المحسنة من التجارب الديمقراطية الاجتماعية أتاحت فرصاً أرحب لأخذها دور القيادة والريادة في بعض المجتمعات.
ما يعنينا في هذا المقام، كيف ينظر الجهاز التنفيذي في الدولة للمجتمع المدني؟ وما السقوف التي يسمح بها؟ وهل تطبيقات الحوكمة قابلة لأن تكون من ضمن أبجديات العمل في هذه المؤسسات على ضوء التحديات الراهنة؟ الأهم في نظري ما المساحة التي تمنحها اللوائح والقوانين الصادرة في هذا الشأن لهذه المؤسسات حتى تمارس دورها وتحقق أثرها بعيداً عن التجاذب والاستقطاب أو التوظيف السلبي لهذه المؤسسات؟ فكونها مؤسسات وفي منظومة ديمقراطية فإنه يعتريها ما يعتري أي مؤسسة أخرى من سوء إدارة أو تنمر ونرجسية، وربما شيء من المجاملات وتعارض المصالح ونحو ذلك، لكن السؤال هنا عن المرجعية التي تضبط المسار وترشد للصواب؛ هل الحكومة بأجهزتها المثقلة، أو الجمعيات العمومية التي لديها من الصلاحيات ما يحول دون تكرار الأخطاء أو حدوث التجاوزات والاجتهادات؟!
من اللافت أيضاً أن جملة من مؤسسات المجتمع المدني تشاغلت باليوميات وجدل العمليات، ولم تتقدم أكثر إلى عمق التحديات التي يئن منها المجتمع، وربما لامست هذه الإكراهات بسطحية لا تتناسب ومستوى الأنين، فقضايا الحريات والجنسية وسائر الخدمات من إسكان وتعليم وصحة وبطالة لم تجد المبادرات التي تواجه شيئاً من تداعيات هذه التحديات وتحقق فيها أثراً مقنعاً.
في الكويت خلال السنوات الخمس الأخيرة، سجّل 600 فريق تطوعي في وزارة الشؤون وهيئة الشباب وأكثر من 48% من تراخيص الجمعيات تمت خلال الفترة، هذه “الرسملة” لشريحة من العمل التطوعي لا تشكل أكثر من نسبة 15% من إجمالي الأعمال التطوعية القابلة للمأسسة في المجتمع المدني، على ما يؤكد ذلك “آدم سميث”، رئيس منظمة “آرنوفا” للمنظمات غير الربحية، في لقاء جمعنا مؤخراً؛ وهو ما يعني حاجتنا لأوعية لائحية تستوعب جهود المجتمع المدني على أن تتركز أكثر على أولويات الواقع وبناء على استقراء الدراسات الميدانية.
يحتاج المجتمع المدني أن يشعر بأنه حالة تعبر عن نفسها وهو بهذا يتماشى مع توجهات الدولة ومصلحتها العليا من دون أن تتنمر بعض الجهات الرسمية المعنية بالتواصل مع هذه المؤسسات فتعتبرها وحدة إدارية تابعة لقطاعٍ في كيانها، ومن دون أن تتعامل بسطحية مع حيوية دورها دون اعتبار لمكانتها أو للقوانين الصادرة في شأن العلاقة المنظمة بين الطرفين، والأخطر أن يتم توظيف هذه المؤسسات لأجندة بعيدة عن المهمة التي أنيطت بها فتخرج عن سياقها وربما تصطدم بالنهايات المؤلمة لهذه العلاقة، كما يجري الآن في بعض الدعاوى المدرجة على القضاء.
ختاماً، أود التأكيد على المشتغلين في مؤسسات المجتمع المدني أن يتعاطوا بروح السباقات الماراثونية لا بذهنية عدّاء سباقات التتابع التي تحكمها السرعة الفائقة والتفكير القصير والاستسلام السريع! بينما العداء الماراثوني لديه بناء تراكمي منتظم، ويعيش تحدي البقاء والاستمرارية، ويبني أهدافه على مراحل ويحافظ على اتزان علاقته مع الآخرين، علاقة مؤسسات المجتمع المدني مع الأطراف ذات الصلة -بعيداً عن الندية أو التبعية- تتطلب أن تقوم على احترام الخصوصية والاستقلالية وحوكمة عملها من خلال هياكلها الإدارية ودأبها في تحقيق أهدافها على مراحل وأدوار لمواجهة الفجوات الإنمائية الضاغطة، وهذا ما يستدعي أن نكون جميعاً عدّائين ماراثونيين!