منذ بداية القرن العشرين وسؤال المصير يلح على الحضارة الغربية بعدما أصبح هاجسا لكثير من المفكرين الغربيين، يطرحونه في كتبهم بعناوين صادمة، ومؤشرات وأفكار مقلقة في محاولة لتنبيه المجتمعات ودوائر الفكر والثقافة وص
ناع القرار لأماكن الخلل ومواطن العلل لعلاجها حتى لا تطالهم سطوة التاريخ في انهيار الحضارات وأفولها.
ويمكن رصد قلق الفكر الغربي بأزمات حضارته في لقاء يعود تاريخه إلى أغسطس من العام 1903، حيث التقى في فيينا الشيخ محمد عبده بالمفكر الإنجليزي الشهير “هربرت سبنسر”، وفي اللقاء انتقد “سبنسر” استحواذ الأفكار المادية على العقل الغربي مما أضعف الفضيلة في نفوس الغربيين، وتوقع أن تتخبط الأمم الأوروبية في حرب طاحنة لتتبين أيها الأقوى، وبعد هذا اللقاء بشهرين يرحل “سبنسر عن الدنيا، ويرحل الشيخ محمد عبده بعده بعامين، وتمضى سنوات ويقف العالم أمام الحرب العالمية الأولى عام 1914 التي قُتل فيها عشرات الملايين، لكن الصعود الغربي استمر وازداد بريقا وقوة وتحققت الهيمنة الغربية عالميا، ففتت الإنسان الغربي الذرة، وصعد للقمر، واكتشف كثيرا من المجهول في نفسه والأرض والكون، وامتلك الفاتك من الأسلحة، وازدادت جامعاته ومعارفه ومفكريه، ومع ذلك يستمر سؤال المصير للحضارة والإنسان الغربي ملحا، بل أصبحت أزمات الحضارة الغربية هي أزمات للإنسانية، ورغم أن الغرب يشكل 10% من سكان العالم لكنه يستأثر بحوالي 60% من الاقتصاد العالمي، وحوالي 90% من براءات الاختراع منسوبة للغرب، وكذلك 80% من الاكتشافات العلمية والتكنولوجية، وأغلب الإصدارات الثقافية وصناعة السينما غربية، بل نمط الحياة الغربية أصبح هو النموذج المنشود لمعظم البشر، لذا فالحديث عن أفول الغرب وتدهوره لابد أن يزعج العالم.
أفول الغرب
على أصوات الحرب العالمية الأولى يكتب الفيلسوف والمؤرخ الألماني “أوسفاليد شبينغلر” كتاب “انحدار الغرب” الصادر في العام 1918، والذي يُعد من الكتب التأسیسیة في الفكر الفلسفي المعاصر، متحدثا عن أزمات العالم الغربي، ومعلنا أن الغرب ينتحر، وأن الرجل الغربي مأساوي، ورغم كفاحه وإبداعه فإنه لا يعرف غاية حقيقية يمكنه الوصول إليها، يعتمد “شبينغلر” في طرحه على ما يسمى “النظرية الدائرية للحضارة” وهي صعود وسقوط الحضارة مهما بلغت قوتها.
والواقع أن الكتابات التي تحدث عن نهاية الغرب نظرت إلى عوامل مختلفة ذات انعكاسات على قوة الغرب، فجزء من الكتابات التي ظهرت في فترة الحربين العالميتين انصرفت إلى أزمة الغرب في نمو القوميات وتطرفها، وحالة الصدام داخل الجسد الغربي، وهيمنة المادية على الغرب بعد الثورة الصناعية، لكن الكتب التي جاءت بعد ذلك نظرت لانهيار الغربي مقارنة بصعود قوى عالمية جديدة خاصة الصين واليابان والهند وماليزيا وقدرتها على الإنتاج والمنافسة وفتح الأسواق والوصول إلى مصادر الطاقة خاصة النفط وكسر الاحتكار الغربي لها استخراجا وتسويقا واستهلاكا.
وقد ظهرت كتابات تتحدث عن الأزمة الغربية انطلاقا من المشكلة السكانية، فالغرب يعاني من شيخوخة مجتمعاته نتيجة تراجع نسبة الشباب لصالح كبار السن، وانقراض مؤسسة الأسرة لحساب حياة المتعة بلا إنجاب، وتزايد معدلات الاستهلاك، والاعتماد على الاقتصاد الخدمي بدرجة تفوق الاقتصاد الإنتاجي؛ فمثلا كتاب “موت الغرب” للمفكر الأمريكي باتريك جيه. بوكانن تحدث عن الأزمة الديموغرافية في الغرب مؤكدا أن هبوط عدد السكان هو سمة الأمم والحضارات التي تعيش حالة انحطاط، محذرا الغرب من خطر الذوبان البشري لصالح أعراق وأجناس أخرى، أما كتاب “انهيار المجتمعات المعقدة” لـ”جوزف تاينتر” فهو يقارن بين الإمبراطورية الرومانية والعالم الغربي مؤكدا أن أهم الدروس المستفادة من انهيار تلك الإمبراطورية هو أن التعقيد له كلفة ينبغي دفعها، فقوانين الفيزياء الحرارية تؤكد أن الحفاظ على أي نظام معقد يستهلك طاقة كبيرة، وكذلك المجتمع الإنساني المعقدة فإنها تستهلك موارد أكثر وهو ما يخلق أزمة تآكل الموارد.
وجاءت موجة أخرى من الكتابات الغربية تتحدث عن تلاشي الإغواء عن النموذج الغربي عالميا مقابل صعود الخصوصيات الثقافية في العالم، فالصدمة الحضارية التي كانت تصيب كل من كان يتصل بالغرب فينسلخ عن ثقافته وأيديولوجيته لصالح الثقافة الغربية ربما دخلت متحف التاريخ، وهو ما يعني أن الغرب فقد قوته الناعمة، ثم جاءت الموجة الحالية التي تنذر الغرب بالانهيار بسبب الإسلام واللاجئين خاصة المسلمين الذين يتزايدون داخل الغرب مهددين بذوبان الثقافة الغربية وتحولها إلى ثقافة ضمن ثقافات وتنوع بشري داخل المجتمعات الغربية، بل إن بعض الثقافات الوافدة إلى الغرب تتمتع بقوة وصمود وقدرة على التبشير تبعث على القلق على الهوية الغربية ذاتها، ومن ذلك كتاب “هل ينهار الغرب؟” “Zerbricht der Westen?” للكاتب الألماني هينريش أوجوست وينكر، والصادر عام 2017 ، والذي يتحدث أسباب “احتضار” الحضارة الغربية، وانحدارها شيئا فشيئا نحو الهاوية، بسبب عدة أزمات منها أزمة اللاجئين، وكذلك كتاب المفكر الألماني “بيرند أولريش” “صباح الخير يا غرب” والصادر في أغسطس 2017 ، والذي يحذر كذلك من أزمة اللاجئين في المجتمعات الغربية، أما الكتاب الفرنسي الصادر عن مجلة لوموند الفرنسية عام 2014 بعنوان”تاريخ الغرب: انهيار أم تحول؟” والذي شارك فيه مفكرون وصحفيون ومؤرخون، فينظر إلى مسألة انهيار الغرب من زاوية فقدان الغرب الريادة في العالم مستحضرا نموذج الإمبراطورية الرومانية التي يعتبرها بعض المؤرخين النواة الحقيقية لتأسيس الغرب ثم يحلل مراحل صعود الغرب وأزماته .
النهاية مرتبطة بالسنن
والحقيقة أن انهيار أي دولة أو حضارة مرتبط بسنن الاجتماع البشري، فالأخطاء التي ترتكبها الحضارات تظل تتراكم ببطء ودون ضجيج حتى تصل إلى نقطة حرجة فتأخذ تلك الحضارة في التراجع والسقوط المدوي، والعلامة “ابن خلدون” يرجع الخلل الذي يضرب الدولة فينخر قوتها إلى عاملين مهمين، أولهما: الخلل الذي يصب الشوكة والعصبية وهي في الحالة الغربية يمكن إرجاعها إلى القوة العسكرية، ويلاحظ أن الغرب متقدم في هذا المجال على مستوى التسليح والتدريب والأنظمة التي تحكم الجيوش فيجعلها جيوشا محترفة بعيدة عن المجال السياسي أو الهيمنة على مقاليد السلطة في تلك الدول.
وثانيهما: الخلل الذي يصيب المال، وفي الحالة الغربية فإن أقوى اقتصاديات العالم هي الاقتصاديات الغربية، كما أن الغرب يهيمن على حركة التجارة العالمية، وغالبية الصناعات المهمة والحيوية في العالم خاصة صناعة الطاقة والسلاح والتكنولوجيا، كما أن الاقتصاديات الغربية هي أكثرها شفافية في العالم ومكافحة للفساد وحفاظا على المال العام.
ورغم أن المال هو عماد المادية في الرؤية الغربية، وهي حقيقة تحدث عنها أحد الخبراء الاقتصاديين البارزين وهو بنيامين فريدمان، حيث شبه المجتمع الغربي بالدراجة الثابتة التي يُسيّر عجلاتها النمو الاقتصادي، فإذا ما تباطأت هذه الحركة الدافعة إلى الأمام أو توقفت، ستهتز ركائز المجتمع الأخرى كالديمقراطية والحريات، إلا أن الغرب يرتكز على عناصر تبقي صموده قويا في مواجهة عمليات النخر والانهيار، ولعل تلك العوامل تعود إلى صفات مرتبطة بالشخصية الغربية متوارثة عبر دوراتها الحضارية المتعاقبة، وهي ما تحدث عنه الصحابي الجليل عمرو بن العاص، في حديث أورده الإمام مسلم في صحيحه عن “المستورد القرشي” عن النبي صلى الله عليه وسلم قال” تقوم الساعة والروم أكثر الناس”، فقال عمرو بن العاص: إن فيهم لخصالاً أربعا: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك”، ويبدو أن مفهوم أن يكون الغرب أكثرية أهل الأرض ليس المقصود بها الأكثرية العددية، ولكن يبدو أنها الأكثرية المقتنعة بالنموذج الغربي وتقلده وتعيش ثقافته أو بمصطلح العولمة أن يصبح العالم قرية واحدة، ومفهوم القرية يوحي بحالة التشابه بين هؤلاء البشر، أما الخصال الخمس التي تحدث عنها عمرو بن العاص فيبدو أنها عوامل تحفظ التماسك الغربي ليستمر في التاريخ موفور الحضور عظيم التأثير، قادرا على مواصلة السير، وما حديث وكتابات هؤلاء المفكرين والمثقفين الغربيين المتتالية والمتكررة إلا أجراس توقظ للغرب أن ينتبه ويجدد حضوره ويزيل الأجزاء الميتة والمنتهية الصلاحية من جسده وليست تعبيرا عن حتمية السقوط والنهاية.
—-
* المصدر: إسلام أون لاين.