كيف عاش اليهود في الأندلس؟
ذلك هو المقال الرابع من سلسلة المقالات المستمرة التي تقارن بين أوضاع اليهود في ظلال الأمة الإسلامية وأوضاعهم التي عاشوها في ظلال الأمم الأخرى، وآثرنا أن تكون مادة المقالات جميعها من مؤرخين غربيين ومستشرقين كي تكون الحجة أبلغ.
استعرضنا في نظرة عامة، وفي تناولنا أحوالهم في عصر النبوة والخلافة الراشدة، وفي تناولنا أحوالهم في عصر الدولتين الأموية والعباسية، وفي هذه السطور نرى كيف عاشوا في ظل الأندلس.
بداية يجب العلم بأن فتح المسلمين للأندلس أنقذ اليهود فيها من الإبادة، كما أن سقوط المسلمين من الأندلس كان افتتاحاً لعصر الإبادة التي شملت المسلمين واليهود معاً في محاكم التفتيش الرهيبة التي فرضت الكاثوليكية على سائر من في شبه الجزيرة.
يلخص اليهودي الصهيوني «ليفي أبو عسل» حياة اليهود في الأندلس بقوله: «ولوا (اليهود) وجههم شطر الأندلس، ثم اقتفى أثرهم جماعات من يهود مصر، فنزلوا ضيوفاً على أمراء العرب المسلمين، ولجؤوا إلى سخائهم الفطري، وكرمهم الحاتمي، ولم يكن من هؤلاء الأجاويد إلا أن أحسنوا ضيافتهم، وأكرموا وفادتهم، وأنزلوهم بين ظهرانيهم، وأحاطوهم بشيء كثير من العطف والعناية، فرفلوا في مروط المرح، وطاب عيشهم هنالك، واستمرؤوا لذة الحياة وعذوبة المعيشة بعد طول الإحن التي ألمّت بهم والكوارث التي ساورتهم، وهكذا سكن ثائر روعهم، وانقشعت غياهب بؤسهم، فأنشؤوا معهداً علمياً فخماً، كان كعبة العلماء ومحط رحال الشعراء وقبلة الأدباء ونطس الأطباء، وأسفر ذلك التضافر العلمي والاجتماعي والتعاون العقلي والأدبي عن إبراز نفائس العلوم وكنوزها وتحف الفنون ورموزها، نفائس تسامى ذكرها، وتعالى قدرها، وطبق صيت مؤلفيها الآفاق، وشهرة واضعيها العالمين».
ويضرب المستشرق الألماني «كارل بروكلمان» بعض الأمثلة على هذا، فيقول: «شارك اليهود في هذه الحياة الثقافية -في الأندلس- مشاركة فعالة، والواقع أنهم كانوا -قبل الفتح الإسلامي- منبثين في طول البلاد وعرضها بين القوط، وأنهم عملوا في خدمة أمراء النصارى كموظفين ماليين، فلما آلت مقاليد الدولة الأموية إلى عبدالرحمن الثالث (الناصر) عهد إلى طبيبه اليهودي حسداي بن شبروط بشؤون المال أيضاً، ليس هذا فحسب، بل لقد استطاع أحد اليهود إسماعيل بن نغرالة أن يبلغ منصب الوزارة في ظل الأمير البربري حبوس الذي استولى على الأمر في غرناطة حوالي سنة 1024م، بعد أن اعتزل الحكم عمه زاوي بن زيري الذي دام عهده حتى سنة 1038م، وهكذا خلعت عليه الجالية اليهودية -وكانت كثيرة العدد هناك منذ العصور القديمة- لقب «ناجد» الخاص بالأمراء».
وبالجملة، كما تقول الراهبة السابقة والباحثة في الأديان «كارين أرمسترونج»، «فقد كانت العلاقات طيبة في العادة بين المسلمين والمسيحيين، وكان المسلمون يسمحون للمسيحيين، مثلما يسمحون لليهود، بالحرية الدينية الكاملة في أرجاء الإمبراطورية الإسلامية، وكان معظم أهل إسبانيا يعتزُّون بانتمائهم إلى تلك الثقافة الرفيعة، فقد كانت تسبق سائر أوروبا سبقاً يُقاس بالسنين الضوئية، وكان كثيراً ما يُطْلَق عليهم المستعربون».
فالثابت من التاريخ، كما يقول المستشرق البريطاني الخبير «مونتجمري وات»، «هو أن المسلمين والمسيحيين واليهود في الدولة العربية أثناء تلك الحقبة اختلطوا بعضهم ببعض في حُرية تامة، وكان لكل فئة منهم نصيب كامل من الثقافة المشتركة».
ولم يكن هذا ليحدث لولا تفوق الإسلام على المسيحية، كما يقول الباحث والناقد الأديب الإسباني «أميركو كاسترو»: «يمكن أن نفهم تاريخ باقي دول أوروبا دون الحاجة لوضع اليهود في المقام الأول، أما في الحالة الإسبانية فالوضع مختلف، فالوظيفة الرئيسة للإسبان العبريين لا تنفصل عن ظروف التعايش والتلاحق مع التاريخ الإسباني الإسلامي، وكانت العربية هي اللغة المستخدمة بين عمالقتهم (نذكر هنا ابن ميمون)، ورغم ذلك كانوا يكتبونها بالحروف العبرية، ومن الواضح أن تفوقهم على أقرانهم في أوروبا يرتبط بتفوق الإسلام على المسيحية خلال الفترة من القرن العاشر وحتى الثاني عشر، ولولا احتكاكهم بالإسلام لما عنوا بالفلسفة الدينية».
وإن أي مقارنة بين العهد الإسلامي وما سبقه وما تلاه ستكون كاشفة، أو كما تقول «زيجريد هونكه»: «بينما عاشت النصرانية في ظلّ الحكم الإسلامي قروناً طوالاً -في الأندلس وصقلية والبلقان- فإن انتصار النصرانية على الإسلام -في الأندلس سنة 1492م- لم يَعْنِ سوى طرد المسلمين واليهود، واضطهادهم وإكراههم على التنصُّر، واستئناف نشاط محاكم التفتيش، التي قامت بتعقُّبِ كلّ مَنْ يتخذ سوى الكاثوليكية ديناً، والحرق العلني -في احتفالات رسمية تحفُّها الطقوس والشعائر الكنسية- لكل من اعتنق الإسلام أو اليهودية».
وإن من أبلغ الأدلة على ما لقي اليهود من المعاملة الحسنة أنهم هرعوا إلى تعمير مدينة فاس حين إنشائها، حتى لقد بلغت الجزية التي يدفعها اليهود –ومن معهم- ثلاثين ألف دينار في السنة، وهو دليل على كثرة عدد اليهود، أو على غناهم لو قُلْنا بقلة عددهم، وكلا الاحتمالين ينفيان احتمال اضطهاد اليهود.
في المقال القادم، إن شاء الله تعالى، ننظر في أحوال اليهود في ظل الدولة العثمانية، فالله المستعان.