الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، محمد وآله ومن والاه، وبعد،،
ففي هذا العام الميلادي 12 فبراير 2018م يمر على حادث استشهاد الإمام حسن البنا تسعة وستون عاما، وقد استهدفته قوى الشر العالمية لاستشعارها خطره عليهم؛ لما أخذه من عهد على نفسه بإحياء الأمة المسلمة وإعادة مجدها ووحدتها، وتحرير إرادتها ومقدساتها، والعمل المستمر والجهاد المتواصل في الدعوة إلى هذا الدين وإعزاز رسالته.
لقد جاء الإمام البنا على قدر مع حال الأمة وواقعها المرير آنذاك؛ حيث تهاوت رايتها، وتفتت جامعتها، وناوشتها الرياح الهوج من يمين وشمال، وتنادت عليها قوى الغرب لتقسيمها واحتلالها بعد أن سقطت الراية الكبرى للمسلمين وهي الخلافة العثمانية التي ظلت فترة ليست قصيرة يطلق عليها (الرجل المريض)، وما أشبه الليلة بالبارحة!
حيث يتعرض المسلمون اليوم في بلادهم للقتل والتهجير والظلم البالغ، وتتعرض فلسطين اليوم لخطر داهم، وإرادة صهيوأمريكية تقوم بتنفيذها قوى “عربية مسلمة” لتنفيذ ما يسمى “صفقة القرن”، يُهجَّر لها أهل سيناء، وتهدم بيوتهم، وتقتل ذراريهم، وتحاصر غزة منذ اثني عشر عاما حتى وصلوا لحالة لا يمكن أن يعيش بها بشر في ظل تواطؤ غربي وعربي معا، وصمتٍ دولي لمؤسسات ما يسمى “حقوق الإنسان” بما يثبت أن الإنسان المقصود هو إنسانهم فقط، وليس إنسان العروبة والإسلام!
جاء حسن البنا فاجتهد لإحياء الأمة، وكانت “وحدة الأمة” هدفه الذي يسعى لتحقيقه، وغايته التي يعمل للوصول إليها، فوظف لها طاقاته، وكرس لها حياته؛ وسعى سعيه وهو مؤمن، وحشد الصفوف، وجمع الألوف، ورفع اللواء، وقدم الفداء، ونادى على المسلمين أنِ: “الطريق من هنا”.
أرسل حسن البنا كتائبه للجهاد في فلسطين، وأرسل رجاله لمقاومة المحتل الإنجليزي في القناة، وبث روحا جديدة في الأمة بما نشره من فكر، وصنعه من رجال، وما كونه من مربين مجاهدين، مستلهما تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية، وسائرا على هدي السيرة المشرفة، فصنع جيلا فريدا يجمع بين التربية والدعوة، والعلم والعمل، وما هي إلا سنوات حتى تبعه أكثر من مليون مسلم!
ركز حسن البنا في مسيرته ودعوته الإصلاحية على الجانب العملي المنضبط بالعلم الشرعي، ورأى أن المدارس الإصلاحية قبله لا ينقصها علم ولا تعوزها معرفة، وإنما يبقى أن ينتقل هذا العلم وتلك المعرفة إلى عمل تطبيقي وتربية عميقة وجهاد متواصل من خلال عمل تنظيمي يتحرك بالإسلام في مجالات الحياة المتنوعة؛ واقعا عمليا، وعملا واقعيا تطبيقيا.
تميز حسن البنا برحابة الفكر ورجاحة العقل وبعد النظر، مع روحانية عالية وقرآنية سامية حتى أسماه الكاتب الأمريكي روبرت جاكسون (الرجل القرآني)، كما وظف حسن البنا في سبيل هذه الغاية الرجال والنساء، والصغار والكبار، وكان يعطي للعلماء حقهم وقدرهم؛ حيث وظفهم لصالح دعوة الإسلام بما يليق بهم، بل سعى لتكوين عدد منهم بما نرجو أن يكون موجودا اليوم، واستطاع أن يقدم نموذجا للإسلام مشرفا بفهم شامل مستوعب ومستوحًى من كتاب الله وسنة رسوله.
ومن هنا فإننا نريد استلهام روح حسن البنا، والاستنجاد بمسلكه في الدعوة لا سيما وظروفنا الآن مثل ظروفه التي جاء بها، والإسلام واسع يأخذ من الجميع بما لا يتعارض مع أصوله ومقرراته، نبسط أيدينا للجميع كما بسطها حسن البنا، وكما بسطها من قبله المصلحون والمجددون، ومن قبلهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونتلاقى مع الجميع على المصلحة العامة إنقاذا لمصرنا وأمتنا، وتحقيقا لأمنها ومصالحها، واستكمالا لأهداف ثورتها المباركة، وإنهاء لجرائم الانقلاب العسكري والقصاص للشهداء الأبرار والمعتقلين الأخيار، لا سيما في هذا الظرف الدقيق التي تتسارع فيه الأحداث، وتتلاطم فيه الأمواج، ويقف العقل غير قادر على تتبع الأحداث ومواكبتها؛ فضلا عن تحليلها والوقوف أمامها.
مشروع متكامل
إن حسن البنا كان يملك رؤية، وكان عنده مشروع متكامل لواقعه الذي عاشه، ونحن يجب علينا أن نستلهم هذا المشروع، ونضيف إليه ما يقتضيه واقعنا وتتعافى به أمتنا، فكما جاء حسن البنا واستفاد ممن حوله وممن قبله، فالواجب على أبنائه ومحبيه اليوم أن يستلهموا هذه الروح، ويحددوا رؤية لنهضة الأمة، ويملكوا الأدوات المحققة لها من خلال عمل مؤسسي تخصصي حقيقي، وتقديس للقيم الإسلامية كالشورى والحرية والعدالة والكرامة، وإطلاق الكفاءات تعمل بحرية وتتحرك في ضوء الرؤية العامة المحققة لمصلحة الأمة والمواجهة لمشروع الصهيوأمريكية، والخادمة لصحوتها المباركة.
إن صناعة هذه الرؤية وتحقيقها من خلال مؤسسات متخصصة، وتفعيل حقيقي للشوري وليس شكليا “ديكوريا”.. لا يمكن أن يكون إلا بقيادة راشدة تتأسى بقيادة رسولنا صلى الله عليه وسلم وبقيادة الصحب الأطهار من بعده، ومسلك قيادات هذه الأمة على مر تاريخها، ومنهم الإمام حسن البنا الذي كان نموذجا نادرا في القيادة والعبقرية والاستيعاب وتوظيف الطاقات والقدرات بوضع القوي الأمين في مكانه الصحيح، وتقديم الكفاءات القادرة على تحقيق الرؤية وإنجاز مشروع الأمة الإصلاحي الشامل.
ونحن في مسيرتنا إذ نذكّر بحسن البنا ومشروعه وجهاده وفكره في ذكرى استشهاده التاسعة والستين فإننا نؤكذ عى أن هذه الأمة منصورة، وأن هذا الدين سيعلو، وأن الأمل لا يفارقنا لحظة بذلك، ويقيننا لا يهتز، ولكن علينا أن نعد لذلك عدته، ونأخذ له أهبته، والله وحده ولي المؤمنين المجاهدين الصادقين وحافظهم وناصرهم ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: ٦٩]. صدق الله العظيم.