لا تنفصل النظرية في عالم التربية ولا تنفك عن جانب التطبيق والممارسة؛ فدائمًا يتوخّى المُنّظِّر إمكانية تحقق نظريته على أرض الواقع لتصبح سلوكًا ومزاولة وممارسة ليظهر أثرها، ولا تبعد الأمور التربوية عن الجانب الاجتماعي بل هو ركن ركين منها، وفي سنة النبي الكريم القولية والفعلية ما يدعم ذلك ويؤكّده؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ما من مسلمٍ يغرسُ غرساً أو يَزْرَعُ زَرْعاً فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلاَّ كان له به صدقة” (صحيح البخاري 1/ 226 رقم 2320. صحيح مسلم 3/ 1188 رقم 1552).
وإذا سألت أحدًا عن هذا الحديث، فما تكاد شفتاك تتحركان بأول كلماته إلا وقد أكمل لك بقيته ؛ وما ذلك إلا لأن الحديث ذائع معروف ، واضحةً كلماتُه ، مفهومة معانيه ، فمن لم يتعلمه في مدرسة سمعه من شيخ في خطبة جمعة، أو تلقاه عبر شاشة تلفاز أو موقع من مواقع التواصل الاجتماعي، وأنت نفسك ربما علّمته أبناءك أو ذكرته أمامهم في معرض حديثك، ولكنك إذا سألت نفسك عن الجانب العملي التطبيقي لهذا الحديث الشريف على أرض الواقع سلوكًا وممارسة في حياة من تعرف أو في تصرفات أبنائك فالأمر عندئذ مختلف؛ إذ كم مرةً اشترك هؤلاء الأبناء في غرس شجرة، أو زرع نبتة؟! وكم مرة كان نظر المربي بعيدًا فرغّب في الاندماج في الأعمال التطوعية لخدمة محيطه المجتمعي الصغير لينشأ الابن ذا نظرة منفتحة على عالمه الكبير؟!
إن التربية العملية للأبناء تختلف عن تلقينهم نظريًا؛ فنحن نُحفِّظهم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وهذا مطلوب بل إنه على رأس الأولويات، ولكن هل وعوا ما حفظوا؟ وهل انعكس ذلك على سلوكهم؟ ونحن نبث لأبنائنا القيم والمفاهيم ولكنها قيم ومفاهيم نظرية نبثها في شكل أوامر ونواه. والجانب النظري – على أهميته التي لا تُنكَر- لا يؤتي ثماره المرجوة إلا من خلال الممارسة؛ وسبيل هذه الممارسة وأهم سبلها العمل الاجتماعي التطوعي بزرع شجرة أو بسقيا عطشان، أو بمساعدة ضعيف، أو بتنظيف شارع أو بإماطة أذى عن طريق.. ليتحول التعليم من جسد التنظير إلى روح التطبيق، ولنا في رسولنا الكريم “ﷺ” الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة؛ فعن سعد بن هشام قال: قُلتُ: يَا أُمَّ المُؤمِنِينَ! – يقصد “عائشة” رضي الله عنها” – حَدِّثِينِي عَن خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ “ﷺ” قَالَت: يَا بُنَيَّ أَمَا تَقرَأُ القُرآنَ؟ قَالَ اللَّهُ: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) خُلُقُ مُحَمَّدٍ القُرآنُ) (أخرجه أبو يعلى (8/275) بإسناد صحيح). فلم يقتصر النبي الكريم على تلاوة القرآن وتحفيظه، وتلقينه أصحابه، وإنما كان واقعًا مُطبَّقًا، وسلوكًا حياتيًا، وما ذلك إلا لأن قيمة التنفيذ والتطبيق هي ما تخرج بالعمل من حيز الكلام إلى نطاق الفعل والتأثير والتغيير.
وحياة النبي الكريم وصحابته الكرام عامرة زاخرة بالأعمال المجتمعية النافعة للفرد والجماعة؛ فجملة” كان خلقه القرآن” أو كان قرآنًا يمشي على الأرض” لها مدلولها الاجتماعي الحي الذي يجسّد ما يتلى في صورة ما يُرى ويُشاهَد ويُلمس ويُحس..
وإذا كنا نعلّم أبناءنا في المدارس أن رسولنا الكريم هو الأسوة والقدوة الحسنة فلماذا لا نأخذ بأيديهم للاقتداء به عملًا وسوكًا ومنهج حياة؟! لماذا لا تخصص في مدارسنا ساعة أسبوعيًا لمزاولة نشاط اجتماعي تطوعي بَنّاء داخل أسوار المدرسة وخارجها؟! هب أن معلمًا أو مربيًا تحدث أمام طلابه الساعات الطوال عن قيمة احترام عمال النظافة مثلًا، وأتى بالأمثلة والشواهد، وحكى من القصص والوقائع المؤثرة ما حكى.. هل تجد له كبير أثر مقارنة بمعلم أو مُربٍ آخر ارتدى أمام طلابه زي عامل النظافة فقلّده طلابه وقاموا جميعًا بما يقوم به عمال النظافة في المدرسة ساعة من نهار؟! إن التجربة الثانية ثرية غنية؛ ووجه ثراها وغناها ذلك الإحساس الذي ولّده المعلم الثاني في نفوس طلابه، فأحسوا بمعاناة ذلك العامل الكادح فكُسِر بداخلهم أنف التكبر والتعالي على صخرة الممارسة العملية، هذا ناهيك عن تنمية الشعور بالمسؤولية؛ فأكياس الشيبسي المبعثرة، وفوارغ المياه الغازية المتراكمة التي قد يلقي بها بعض الطلاب دون اكتراث؛ لاتكالهم على عامل النظافة سيشعرون بمعاناة جمعها والتقاطها من صفوف المدرسة وساحاتها فيتربى في نفوسهم شعور تحمل المسؤولية فلا يلقون بها بعد ذلك إلا في سلّات المهملات المخصصة لها، إضافة إلى تحوّل نظرة التعالي تجاه عامل النظافة إلى نظر شكر وإعجاب!
إن إشراك الأبناء في غرس شجرة على جنبات الطريق بأيديهم يعلمهم من القيم التعاونَ؛ فهذا يحفر الحفرة، وذاك يأتي بالماء، وثالث يغطي الجذر بالتراب.. إلخ، فيدرك أبناؤنا أن الحياة ليست لهم وحدهم، وأنها ليست سهلة، ولكنها قد تصبح كذلك لو ساعد كلٌ منّا أخاه! وبهذا يتعلمون درس التعاون وبجواره دروس أخرى كالإيثار، ومساعدة المحتاج، وطلب الأجر من الله عز وجل من ظل هذه الشجرة التي غرسوها، والإيجابية، وحب الوطن والعمل على رفعته؛ فالوطنية ليست شعارًا يُرفَع بل إحساس وشعور نابع من الارتباط بالأرض ومن أنهم أصحابها والمشاركون في تنميتها وإعمارها بشجرتهم التي غرسوها بأيديهم؛ فتراهم يعتزون بها، يحافظون عليها، ويدافعون عنها أمام من يحاول قطع غصن من أغصانها، فينمو بداخلهم حب الوطن حقيقة لا كذباً أو زيفاً أو شعارات رنانة؛ لأن لكل واحد منهم جزءً في هذا الوطن؛ فهو قد أسهم في بنائه، ومن يبني لا يعرف الهدم، وسيجنى وأبناؤه ثمار ما بنوا وزرعوا، وتلك قيم لا تنمو بالخطب ولا تغرس بالأشعار، وإنما بذاك الأسلوب التربوي العملي التطبيقي الواعي، ومن ثم يتحقق السلم المجتمعي والأمن الاجتماعي.. وغير ذلك كثير من جوانب الإفادة التي قد لا تظهر كلها في الآن، ولكنها رسخت في وجدانهم ليستفيدوا منها ويعلموها أبناءهم مستقبلًا، وبهذا وأشباهه تبنى صروح الحضارات، وتقام أمجاد الأمم.
إن من حسنات العمل الاجتماعي أنه يكشف لنا جوانب القصور في تعليمنا المفتقد للبعد الاجتماعي العملي النابع من الجانب التربوي بمفهومه الشامل مع ضرورة التأكيد على التكامل لا التعارض، فلا خير في تعليم لا يربي المتعلم على خدمة مجتمعه وأمته، ولا خير في منهج لا يربط النظرية بالتطبيق.
إن للعمل الاجتماعي ظلالاً وارفة، وآفاقاً رحبة شاسعة ينبغي أن تمتح التربية من معينها لتنشئة جيل محب لأوطانه، خادم لمجتمعه، ناصح لأمته أمين على مقدّراتها بفكر مستنير، وبصر ثاقب، ووعي بحجم التحديات التي تواجه مجتمعه، ورغبة حقيقية بالإسهام في وضع الحلول الناجعة لها من خلال التعاون مع أفراد ذلك المجتمع والالتحام مع بقية لبناته ليصبح بناء مرصوصًا يشد بعضه بعضًا، وهذا ما نطمح أن نراه في أبنائنا، فهل سنراه قريبًا مُحَقَّقًا؟