نشأت العلوم الاجتماعية الوافدة من الحداثة الغربية إلى بلادنا قبل نحو مائة وخمسين سنة. وظلّت هذه العلوم في جملتها «غير فاعلة»، و«لا-وظيفية» في بلادنا إلى اليوم. وعلى الطرف الآخر، ورثنا عن قدماء العلماء نظريات عملاقة تغطي مجالات واسعة من المجالات التي تدخل في اهتمام العلوم الاجتماعية الحديثة، ولكن هذه النظريات، وفي القلب منها: نظرية «المقاصد العامة للشريعة»، انحسر ظلّها شيئًا فشيئًا، وتكاد تكون غائبة باستثناء حضورها «النظري» – التقليدي في أغلبه – في قاعات المحاضرات والدروس في الكليات الشرعية.
ولكن هل تتحقق مقاصد الشريعة بمجرد العلم بها؟ وهل يجني المجتمع ثمرتها إن هي أصبحت جزءًا من الوعي العام لمعظم أبنائه، أو إذا تشكلت في ضوئها أغلب جوانب الثقافة السائدة؟ وهل تتحقق مقاصد الشريعة في فضاء التأمل النظري الذي يتيح مجالًا واسعًا للحديث عن البنيان الأصولي المتماسك لمكوناتها؟
إن الإجابة على مثل تلك التساؤلات هي النفي القاطع، وبدون تردد؛ إذ لا يكفي العلم النظري لإدراك الفائدة العملية ما لم يقترن هذا العلم بالاجتهاد والعمل من أجل تحويل الفكرة أو التشريع إلى برنامج أو مشروع. ومن أسفٍ أن نظرية المقاصد العامة للشريعة قد آلت في وضعها الراهن إلى أن أصبحت تصورًا نظريًا مفارقًا لملابسات الواقع، والاجتهادات والجهود التي تبذل من أجل وصلها بالواقع، وعمليات قياس أحواله بمعاييرها نجدها قليلة وغير منتظمة.
لا توجد مثلًا دراسات في علم الإدارة لتقييم أداء المؤسسات الأهلية أو الحكومية والرقابة عليها بمعايير المقاصد العامة للشريعة، ولا توجد دراسة واحدة حتى الآن قيَّمت أداء مؤسسة تشريعية (مجلس نيابي – برلمان) أو مؤسسة تنفيذية (مجلس وزراء – حكومة محلية) من هذا المنظور. وأين هي النظريات التي طوّرها أساتذة الإدارة أو العلوم السياسية في ميدان «صنع القرار واتخاذه» انطلاقًا من قاعدة «مقاصد الشريعة» وأصولها التي تتناول: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وتُميِّز في كل منها بين ما هو أصلي وما هو مُكمِّل، وما هو عام وخاص، وشامل وجزئي، وتوازن بين المصالح والمفاسد؟ ولماذا تغيب مثل هذه المنهجيات وما تحمله من قيم ومبادئ عن علومنا الاجتماعية بمختلف فروعها؟ لا بد أن نرجع إلى معضلات نشأة العلوم الاجتماعية في بلاد أمتنا الإسلامية، وانفصال تلك العلوم قبل أكثر من قرن من الزمان عن «العلوم الشرعية» الموروثة، واعتمادها إلى اليوم على «النقل والترجمة» من مؤلفات الباحثين والعلماء الغربيين.
ما أراه هو أن المقاصد العامة للشريعة لا تتحقق بمجرد وجودها في بطون الكتب والمؤلفات القديمة، ولا حتى عندما تصبح جزءًا من الوعي الثقافي السائد في المجتمع، وإنما تتحقق – إضافة إلى كل ذلك ومعه – عبر تشريعات ومشروعات ومؤسسات وبرامج تنفيذية تشق طريقها وسط الواقع الاجتماعي المعاصر بكل تعقيداته ومعطياته وتحدياته. إن مجتعات أمتنا الإسلامية بحاجة إلى «تحديث العلوم الاجتماعية بمعايير المقاصد العامة للشريعة»، وليس العكس على أي حال من الأحوال.
والسؤال الرئيسي الذي يربط نظرية المقاصد بالعلوم الاجتماعية هو كيف تتحقق هذه المقاصد في الواقع؟ وتقودنا الإجابة على مثل هذا السؤال إلى إعادة طرح العلاقة بين الدين والمجتمع من منظور مختلف عمّا ألِفته مدارس علم الاجتماع الغربي، وخصوصًا عند كل من أوجست كونت وإميل دوركايم. ومن المهم أن نجيب أولًا على سؤال: أين تتحقق مقاصد الشريعة الإسلامية؟ ولدينا ثلاث إجابات محتملة على هذا السؤال الأخير، وهي:
الأولى هي أن مقاصد الشريعة تتحقق في «مجتمع ديني» تحكمه سلطة دينية قادرة على تحقيق تلك المقاصد بوسائل مختلفة.
الثانية هي أنها تتحقق في «مجتمع بدائي» أو «بدوي» تنقله نقلة نوعية إلى الأمام ثم لا تكون ثمة حاجة إليها بعد ذلك؛ إذ يتجاوزها الزمن وتصبح عديمة الجدوى.
الثالثة هي أنها تتحقق في «مجتمع مدني»، نموذجه الأول – وليس الأخير – هو مجتمع المدينة الذي تشكّل بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب، وبادر بتغيير اسمها إلى المدينة على نحو ما سجلته كتب السيرة ومدونات التاريخ الإسلامي.
تلك هي الاحتمالات الثلاثة التي تقدّم إجابات مختلفة على السؤال الذي نناقش فيه طبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي الأنسب لتحقيق مقاصد الشريعة.
الإجابة الأولى – السابق ذكرها – لا تقدم تكوينًا اجتماعيًا وسياسيًا مناسبًا لتحقيق مقاصد الشريعة؛ ذلك لأن من بديهيات شريعة الإسلام وأولياتها نقضُ السلطة الكهنوتية وتقويض أركانها وتجفيف منابعها، ومن ثم فإن المجتمع الذي تحكمه سلطة كهنوتية/دينية لا يصلح لتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية، بل إنه سيكون مقيّدًا لها، مانعًا من تحققها. ومقصودنا بالسلطة الكهنوتية هنا هو: تلك السلطة التي تدّعي أن لها حقًا، صغُر أم كبر، في التدخل في ضمير الفرد أو الرقابة عليه أو معاقبته أو الحكم عليه بالكفر أو الإيمان بدعوى أن صاحب هذه السلطة – فردًا كان أو مجموعة أو طائفة أو حزبًا أو فئة – ينطق باسم الله، أو مبعوثًا من لدنه (ما خلا الأنبياء والمرسلين)، أو واسطة بينه وبين الناس، أو مفوّضًا من الله تعالى. بهذا المعنى، جاء الإسلام ليحارب مثل هذا النمط من السلطات ويخلص البشرية من شروره، ويفتح المجال لتكوين مجتمع حر يهيّئ للأفراد والجماعات الازدهار والنمو في وعيهم وعقولهم، وأنفسهم، وأموالهم، ونسلهم، ويهيئ لهم أيضًا إمكانية التفتح الروحي والعقيدي بمحض اختياراتهم.
وأما الإجابة الثانية فلا تقدم أيضًا تكوينًا اجتماعيًا أو سياسيًا ملائمًا تتحقق فيه مقاصد الشريعة؛ فالمجتمع البدائي، أو البدوي، من حيث تركيبته الاجتماعية المحدودة، ومن حيث حاجاته الاقتصادية البسيطة، ومن حيث مستواه الفكري والثقافي، هو أسير العادات والتقاليد والجهل، ولا يتسع لتلك المقاصد أصلًا، وهي تتجاوزه بمراحل. وقد جاء الإسلام بتحرير العقل من كل قيد، وخاصة قيود التقليد، والخرافة، والأسطورة، والأمية. ودعا لإطلاق حرية التفكير وإعمال العقل باعتباره النعمة الكبرى التي أنعم الله بها على بني الإنسان، وجعل التفكير فريضة إسلامية، ونظر إلى المقصر فيها كالمقصر في الصلاة والزكاة وسائر فرائض الإسلام وأركانه. وكان خضوع مثل تلك المجتمعات البدائية أو البدوية للشريعة واقتدائها بمقاصدها عاملًا جوهريًا في تقدمها ونقلها إلى حالة أكثر تطورًا ضمن «مجتمع مدني» حضاري.
الإجابة الثالثة، إذن، هي وحدها التي تقدم التكوين الاجتماعي والسياسي الأنسب؛ ذلك لأن مقاصد الشريعة الإسلامية لا تتحقق إلا في مجتمع مدني، بمعنى: أنه مجتمع حر ومتطور وآمن وعادل. وهذه هي الأسباب:
أ. أن جملة المقاصد الشرعية – كما عرفها مؤسسو نظرية المقاصد على تعاقب الأزمان – لا يمكن تصورها متحقّقة خارج نطاق مجموعات من البشر بينهم شبكة كثيفة من العلاقات، والمصالح، والاختلافات في العقائد والمذاهب والثقافات؛ فإن لم تكن هذه الشبكة موجودة، فستوجدها السيرورة الاجتماعية للمقاصد وهي تنتقل من حيز التجريد النظري إلى مستوى التطبيق والممارسة العملية، وهو عين ما حدث في التاريخ الإسلامي، بدءًا بعهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبخاصة مع نشأة مجتمع المدينة المنورة، وكتابة وثيقة المدينة التي هي أول وثيقة دستورية مكتوبة عرفها تاريخ البشر، وفيها جرى تشريع كيفية تحقيق مقاصد الشريعة في إطار اجتماعي محدد زمانًا ومكانًا، وجرى الاقتداء به بعد ذلك في تأسيس المدن والأمصار التي أنشأها المسلمون في مناطق العالم القديم الذي وصلوا إليه.
ب. أن مقاصد الشريعة هي التي وفّرت الشرط الضروري واللازم لوجود المجتمع المدني ذاته بالأوصاف التي أسلفناها، وتمثل هذا الشرط في وجود «مجال عام» محدّد المعالم ويمكن تمييزه عن المجال الخاص، ولكنه غير منبت الصلة به. وبدون وجود مجال عام فلا وجود لمجتمع مدني أصلًا. ونظرية المقاصد هي التي أوجدت الرابطة بين العام والخاص، فهي التي أوضحت، مثلًا، أن من قتل نفسًا واحدة فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحيا نفسًا واحدة فكأنما أحيا الناس جميعًا، ومن هنا كان «حفظ النفس» أحد الضروريات الخمس الكبرى ضمن المقاصد العامة.
ج. في المجتمع المدني الإسلامي، وبدءًا بالنموذج الذي أسسه الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، أمكن الجمع بين مصلحتي الدنيا والآخرة، أو المعاش والمعاد. أما في المجتمع الديني/الكهنوتي بالمعنى السابق شرحه، فلا مجال لرعاية مصالح الحياة الدنيا إلا بالقدر الذي يخدم السلطة الكهنوتية؛ إذ يتجه الجهد كله إلى توجيه عامة الناس إلى الحياة ما بعد الموت لا قبله، والسيطرة على أرواحهم وعقولهم، واستغلالهم. وفي المجتمع البدائي لا يكاد الوعي ينصرف إلى أكثر من تدبير شئون العيش، مع بعض التصورات البدائية عن قوى خارقة، أو آلهة موهومة يجد الإنسان البدائي نفسه مضطرًا للإيمان بها لا لشيء إلا لتأمين حياته الدنيوية حسب اعتقاده.
أما الإسلام، فقد جاءت مبادئه التشريعية ومقاصده العامة وقيمه الأخلاقية تحمل في طياتها قوة تمدينية هائلة، وعندما وجدت طريقها إلى التطبيق أدت إلى نشوء مدن ومجتمعات مدنية متطورة، ومستجيبة لما يقتضيه الإسلام من ضرورة الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة. وعند التعارض، فإن الحياة في الإسلام تكون مقدمة على الدين، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل «بع ما تملك واتبعني»، لكنه ردًا على من استشاره فيما يتصدق به من ماله، قال: «الثلث، والثلث كثير». والرُّخص في الصوم والصلاة والزينة والطيبات من الرزق، والاقتصاد في الإنفاق والتوسط، والنهي عن الغلو في الدين، كل ذلك يؤكد أن التكوين الأنسب لتحقيق مقاصد الشريعة هو «مجتمع مدني» كالذي وضع نواته الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في المدينة المنورة، وليس مجتمعًا دينيًا/كهنوتيًا مغلقًا تقبض عليه سلطة مستبدة كالذي عرفته أوروبا في عصورها الوسطى المظلمة، ولا مجتمعًا بدائيًا كالذي مرت به البشرية وهي في مراحل تطورها الباكر من تاريخها.
كيف تتحقق مقاصد الشريعة في المجتمع؟
إن وضوح المقاصد على المستوى النظري المجرد شرط ضروري لتحقيقها في الواقع الاجتماعي، ولكنه غير كاف. فلكي تتحقق واقعيًا، لا بد من أن تتحول إلى تشريعات تستوعبها وتعبّر عنها، أو تصاغ في ضوئها وتتخذ من تلك المقاصد معيارًا لها. ثم تتحول تلك التشريعات إلى مشروعات تترجم المقاصد في ضوء احتياجات المجتمع المتغيرة من مرحلة إلى أخرى، مع إدراك أن هذا التغير لا يصيب فقط حجم الاحتياجات، وإنما يطرأ أيضًا على نوعياتها؛ فما يصنف في مرحلة زمنية معينة على أنه من الحاجيات، قد يصنّف في مرحلة أخرى على أنه من التحسينيات، وما يُنظر إليه على أنه كلي وعاجل، قد يتحول بعد حقبة من الزمن إلى جزئي وآجل، وهكذا. والذي يبت فيما إذا كانت هذه الحاجة أو تلك كلية أو جزئية، عاجلة أو آجلة، تحسينية أو حاجية، هي نتائج البحوث والدراسات التي يقوم بها خبراء ومختصون في العلوم الاجتماعية ومعارفها، وتعتمد – ضمن ما تعتمد – على الإحصاءات الاجتماعية والحيوية، وعلى نتائج المسوح والاستطلاعات الميدانية التي تسهم في التشخيص الدقيق لأوضاع المجتمع ونوعية وكمية المطالب التي يسعى لتحقيقها.
كي تتحقق المقاصد الشرعية أيضًا فإنها تحتاج إلى «مؤسسات» متطورة، ترعى وتدير تلك المشروعات، كما تحتاج إلى برامج تفصيلية تستجيب لمقتضيات كل مقصد وضرورات تنفيذه. تتحقق المقاصد إذن بالعمل والإدارة الفعالة، والمؤسسات الكفؤة من جهة، وبالوعي والإرادة، من جهة أخرى.
إننا نعتقد مبدئيًا – وإلى أن يثبت لنا العكس – أن تراجع فقه المقاصد العامة للشريعة، وضمور المعرفة العلمية (النظرية) والعملية (التطبيقية) به راجع في قسم كبير منه إلى سيادة ثقافة الاستبداد، وهيمنة أنظمة التسلط وكبت الحريات؛ ذلك لأن جوهر نظرية المقاصد في صلتها بالواقع الاجتماعي هو «الحرية»، ورسالتها الأولى هي «التحرير»: حرية الإنسان بوصفه إنسانًا، وتحريره من كل قيد يحد من قدرته على الاختيار الحر، أو يعوق تطلعه من أجل تحسين نوعية حياته وفي إعمار الأرض التي استخلفه الله فيها، ولا يتناقض ذلك أو يتعارض مع تفاصيل الأحكام الشرعية المتعلّقة بالفرائض وأصول العبادات والمعاملات والجنايات كما هي مقرّرة في الفقه وأصوله.
في رأينا، إن ضمور المعرفة بفكرة من الأفكار، أو نظرية من النظريات، أو بأمر من الأمور، هو مقدمة لتلاشيه من الواقع إن كان موجودًا من قبل، وسبب من أسباب إزاحته وانسحابه من الممارسة الاجتماعية، وتراجع تأثيره في السلوكيات وأنماط الحياة. وهذا هو الحادث بالنسبة لنظرية المقاصد العامة للشريعة؛ فهي تكاد تكون غائبة عن البرامج التعليمية والثقافية، والجهد اليسير الموجّه للاهتمام بها يكاد ينصب -كما أسلفنا – على إعادة تكرار ما قاله السابقون دونما أدنى محاولة لإعادة قراءة هذه النظرية وضخ ماء الحياة في أوصالها من جديد لتصبح عاملًا مؤثرًا في صوغ الوجدان الفردي والوعي الجماعي، ولتصبح معيارًا مرشدًا، ليس فقط للعلوم الاجتماعية والطبيعية، وإنما أيضًا لصُنّاع القرار، ولمؤسسات الرقابة والمحاسبة.
———–
* المصدر: موقع إضاءات.