– للتربية مناهج ومدارس ودورات ولها متخصصون ومتمرسون ينقلونها عبر عملية تعليمية ليست سهلة
– الذي يلقن القرآن صغيراً يختلط بدمه ولحمه حيث يتزامن ثباته في القلب مع نمو الجسد والروح معاً
– للصداقة فعل السحر في التربية فلو استطعت أن تختار لأولادك صحبة صالحة لخففوا عنك الحمل
– العقوبة في عملية التربية يجب أن تستعمل بحكمة فلا يصح أن نعاقب الولد على كل مخالفة يقوم بها
– التربية بالدعاء مما يغفل عنه كثير من الناس والرسول لجأ إليها مع الشاب الذي استأذنه في الزنا
– من الصعب إغلاق نوافذ الثقافات التي تغشى عقل الأولاد لذا يجب تنمية أدوات الحماية والحصانة
لا يشك أحد في أننا نعيش في عالم معقد التفاصيل، ولم تصبح الحياة سهلة على سجيتها كما كانت في أزمان مضت، وانعكست هذه التعقيدات على مفردات الحياة جميعاً، فلم يعد الوعظ مجرد كلمات توقظ الإيمان داخل القلوب، ولم تعد الثقافة مجرد كتاب تقرأه في الأدب والشعر، ولم تعد التربية مجرد أوامر ونواهٍ تُلقى إلى الأولاد فتؤتي أًكُلَها!
أصبح لا بد من الخبرة والدربة لأداء هذه المهام، فغدت للتربية مناهج، ومدارس، ودورات، وغدا لها متخصصون ومتمرسون ينقلون هذه الخبرة عبر عملية تعليمية ليست سهلة، وضاعف من هذه الصعوبات كثرة النوافذ المفتوحة، والروافد المشرعة على مصاريعها، التي تنفذ إلى مدارك أولادنا، تغزوهم وتوجههم، وتبني لهم قوائم من المعارف الثقافية والدينية، وهم على سررهم، بمجرد ضغطة من زر، بل أصبحت تغشاهم هذه النوافذ دون هذه الضغطة منهم!
في ظل هذا الوضع المتشابك والمعقد، تتضاعف مسؤولية الآباء في تربية أولادهم، وتصبح من أعقد الواجبات الملقاة على عواتقهم، غير أن هذا كله ينبغي ألا يؤدي إلى اليأس من صعوبة التوجيه والتربية، فقد خلق الله الإنسان مفطوراً على الإيمان، وكل ما يقدمه البشر في مجال التربية الدينية هو إيقاظ الإيمان في قلوب الناس.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «من المعروف عند السلف والخلف أن جميع الجن والإنس معترفون بالخالق مقرون به، مع أن جمهور الخلق لا يعرفون النظر الذي يذكره هؤلاء، فعلم أن أصل الإقرار بالصانع والاعتراف به مستقر في قلوب جميع الإنس والجن، وأنه من لوازم خلقهم، ضروري فيهم، وإن قدر أنه حصل بسبب، كما أن اغتذاءهم بالطعام والشراب هو من لوازم خلقهم، وذلك ضروري فيهم». (درء تعارض العقل والنقل، 8/ 482).
وفي السطور القادمة، نذكر بعض الفوائد التي نبه إليها علماء التربية في القديم والحديث؛ لعلها تعين الآباء على أداء هذه المهمة:
وجوب تربية النشء وأهميتها:
1- قال الإمام أبو حامد الغزالي: «والصبي أمانة عند والديه، وقلبُه الطاهر جوهرةٌ نفيسة ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما يُنقش عليه، وقابل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوّد الخير عَلِمه وعُلّمه، ونشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه، وكلُّ معلم له ومؤدّب، وإن عُود الشر، وأُهمل إهمال البهائم، شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيّم عليه، الوالي له، وقد قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6}) (التحريم).
2- تعليمهم القرآن؛ فمن يُلقن القرآن وهو صغير يختلط القرآن بدمه ولحمه؛ ذلك لأنه تلقاه في المدة الأولى من العمر التي يكون العقل فيها في طور النمو والتكامل؛ فالقرآن عندئذٍ يتزامن ثباته في القلب مع نمو هذا الجسد والعقل معاً؛ فعند ذلك يكون قد اختلط بلحمه ودمه.
يقول ابن خلدون: «تعليم الولدان للقرآن شعار الدّين؛ أخذ به أهل الملّة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم؛ لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي يبنى عليه ما يحصل بعد من الملكات، وسبب ذلك أن التعليم في الصغر أشد رسوخاً وهو أصل لما بعده؛ لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات» (تاريخ ابن خلدون، 1/ 740).
إن من أعظم مقاصد نزول القرآن على هذه الأمة التزكية والتربية، قال تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ {151}) (البقرة)، ولهذا كان التركيز على الجانب التربوي أكثر من الجانب التعليمي، لا سيما أن القرآن الكريم اشتمل على التوجيه الشامل لهذه الجوانب، ويستطيع المعلم الإشارة إلى هذه الجوانب وتربية الأطفال على أخلاق القرآن، والتأكيد على أهمية الإيمان وغرس الإيمان في قلوب الأطفال من خلال الآيات القرآنية التي أكدت العقيدة الإسلامية، وقضايا الإيمان بالله عز وجل وأركانه كما جاءت مفصلة في السور المكية التي اجتمعت أكثرها في قصار السور، والتي يبدأ الأطفال بحفظها وتعلمها أولاً؛ حتى يكون لدى المتعلمين القناعة الكاملة بأن الإيمان بالله عز وجل هو أساس السعادة في الدارين، فأكثر الناس سعادة المؤمنون، وأكثر الناس شقاوة الخارجون عن الإيمان في الحياة الدنيا، وبهذا سوف يتحقق قول المتعلم وعمله واعتقاده مع مقتضيات الإيمان الصحيح.
3- الرفق واللين؛ وردت عدة أحاديث نبوية ترشد إلى استعمال الرفق واللين في التعامل، منها: عن أم المؤمنين عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهَا، قَالَتْ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ» (رواه البخاري، 6024)، وروى مسلم (2592) عَنْ جَرِيرٍ رضي الله تعالى عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يُحْرَم الرِّفْقَ، يُحْرَم الْخَيْرَ»، وعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شيء إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شيء إِلاَّ شَانَهُ» (رواه مسلم، 2594)، وعَنْ أم المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله تعالى عنها: أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ» (رواه الإمام أحمد في مسنده (24427)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 303).
ومن طبع الأولاد أنهم يحبون الوالد الرفيق بهم، المعين لهم، الذي يهتم بهم، لكن من غير صراخ وغضب، قدر الطاقة، بل بحكمة وصبر، فالطفل في سن يحتاج فيها إلى الترفيه واللعب، كما أنه في السن المناسبة للتأديب والتدريس، فلهذا يجب إعطاء كلّ شيء حقه باعتدال وتوسط، والأولاد إذا أحبوا الوالد الرفيق كان هذا الحب دافعاً قوياً لهم لطاعة الوالد، وبالعكس فغياب الرفق، وحضور العنف والشدة يسبب النفور؛ وبالتالي التمرد والعصيان، أو سيطرة الخوف الذي يولد في الطفل الكذب والخداع.
4- التعامل بالرفق لا ينافي استعمال العقوبة عند الحاجة إليها، لكن يجب أن ننتبه إلى أنّ العقوبة في عملية التربية يجب أن تستعمل بحكمة؛ فلا يصح أن نعاقب الولد على كل مخالفة يقوم بها، بل تكون العقوبة، حيث لا ينفع الرفق، ولم يؤدبه النصح والأمر والنهي، كما أن العقوبة يجب أن تكون مفيدة، فمثلاً أنتِ تعانين من قضاء أولادك لوقت طويل أمام التلفاز، فيمكن أن تحددي لهم برامج لمشاهدتها، تنفعهم ولا تضرهم غالباً، وتخلو من المنكرات قدر الطاقة؛ فإن تجاوزوا الوقت المحدد، فيمكن معاقبتهم بحزم بحرمانهم من التلفاز ليوم كامل، وإن خالفوا مرة أخرى فيمكن أن حرمانهم منه لمدة أكثر من ذلك، بحسب ما يحقق الغرض، وينفع في الأدب.
5- إحاطتهم بالصحبة الصالحة؛ للصداقة فعل السحر في التربية، فلو استطعت أن تختار لأولادك صحبة صالحة؛ لخففوا عنك الحمل، فاحرص على ذلك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (رواه أحمد والترمذي وأبو داود والبيهقي في «شعب الإيمان»، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال النووي: إسناده صحيح، وحسنه الألباني).
ويقص علينا القرآن قصص رجال طغوا بسبب صداقة السوء، قال الله تعالى: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً {27} يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً {28} لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً {29}) (الفرقان).
6- الدعاء؛ عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: «إن فتى شاباً أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا! فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه، فقال النبي: «ادنه»، فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: «أتحبه لأمك؟»، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»، قال: «أفتحبه لابنتك؟»، قال: لا واللَّه، يا رسول اللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم»، قال: «أفتحبه لأختك؟»، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم»، قال: «أفتحبه لعمتك؟»، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم»، قال: «أفتحبه لخالتك؟»، قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»، قال: فوضع يده عليه وقال: «اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصّنْ فرْجَه»، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء» (رواه أحمد).
وفي رواية أخرى: وقال: «اللهم طهر قلبه، واغفر ذنبه، وحَصّنْ فرْجَه»، فلم يكن شيء أبغض منه (أي الزنا).
يظن كثير من الناس أن هذه القصة مثال على التربية بالحجة والإقناع؛ وفي الحقيقة ليس الأمر كذلك، فما قاله النبي صلى الله عليه وسلم للشاب ليس جديداً على معارفه، فالشاب مفتون بالشهوة، ومع هذا هو يكره الفاحشة في أهله، وكراهيته للفاحشة في أهله لم تمنع طغيان الفاحشة في نفسه، لكن التربية هنا كانت بالدعاء؛ حيث دعا له النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهمّ اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحَصّنْ فرْجَه»؛ فغدا الزنا بغيضاً مبغضاً إلى قلب الشاب ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له.
والتربية بالدعاء مما يغفل عنه كثير من الناس، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاث دعوات مستجابات لاشك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة الوالد، ودعوة المسافر» (رواه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني والأرناؤوط).
7- غرس عناصر التحصين؛ في ظل هذا الواقع المعقد، لن يتمكن الأب من إغلاق نوافذ الثقافات التي تغشى عقل ولده وقلبه، لكنه يمكنه أن ينمي فيه أدوات الحماية والحصانة من الأفكار المنحرفة، وهذا يكون بتعليمه لا بتلقينه، بإقناعه لا بإلزامه، قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ {24}) (السجدة).
يقول ابن القيم في بيان سبب «الصبر واليقين تحديداً»: «ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر، ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين، فقال: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ {24}).
فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين، وجمع بينهما أيضاً في قوله: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {3}) (العصر)، فتواصوا بالحق الذي يدفع الشبهات، وبالصبر الذي يكف عن الشهوات، وجمع بينهما في قوله: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ {45}) (ص)، فالأيدي: القوى والعزائم في ذات الله، والأبصار: البصائر في أمر الله، وعبارات السلف تدور على ذلك». (إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان، 2/ 167).
8- لا بد من الاستعانة بالكتب النافعة في مجال تربية النشء، فهي تختصر المسافات، وتنبه إلى الأخطاء، وتقدم خبرات يحتاج إليها المربي.
فسوف تتعلم منها مثلاً الفرق بين التربية والتسلط والسيطرة، وسوف تبصرك بمعايب «الحماية الزائدة» التي تصل إلى حد «الحجر على شخصية الطفل»، وكيف تفرق بين المطلوب والمرفوض في هذا الإطار!
وسوف تساعدك هذه الكتب المتخصصة على التمييز بين العقاب والأدب، ومتى يكون كل منهما مطلوباً، ومتى يكون ضاراً، إلى غير ذلك من الثنائيات الحدية التي من الصعب أن يتعرف إليها المربي وحده دون التزود بهذه العلوم.
(*) باحث شرعي