في منتصف الخمسينيات بلغت الحضارة الغربية قمة منحناها، وكانت مقولة “أرنولد توينبي” حول تفوّقها، واحتمالات ابتلاعها للحضارات المنهارة التي تدور في فلكها، وبضمنها الإسلامية، أمراً معقولاً، وكانت قيادتها قد آلت إلى أمريكا، التي بدت بالمقارنة مع الدول الاستعمارية العتيقة، كبريطانيا وفرنسا، اللتين سامتا الشعوب المستضعفة المرّ والعذاب والابتزاز، وبالمقارنة مع الاتحاد السوفييتي بقسريته وآليته العاتية، بمثابة الدولة المحرّرة الواعدة بالخلاص!
كانت، بالنسبة للكثيرين من المبهورين بالحضارة الغربية، تمثل الوجه الجميل، وكانت أمريكا نفسها، من أجل التحقق بزعامتها، وإغواء دول العالم الثالث، والحلول محل الاستعماريات القديمة، تحرص على تلميع هذا الوجه، بحيث إن كتاباً كـ”أمريكا التي شاهدت” للشهيد سيد قطب، كُتب في تلك المرحلة (بداية الخمسينيات) يُسطى عليه من قبل المخابرات المصرية، ويُمنع نشره.
لم تكن أمريكا مستعدة لتشويه وجهها “الجميل” وهي مقبلة على تدشين قيادة العالم، وإخراج منافساتها من الساحة.
لكن بعد مرور أقل من عقد فحسب، وبخاصة في أعقاب اغتيال “كندي” وتسلّم “جونسون” السلطة، ومجازفة فيتنام، وانكشاف الوجه القبيح لأمريكا، واكتشاف دورها في العديد من الانقلابات العسكرية في دول العالم الثالث؛ تغيّرت الصورة، ولم تعد أمريكا نفسها تكتم تشويه صورتها، بعد أن تحققت بالقوة والسيطرة، بحيث إن رواية تؤلف بعنوان “الأمريكي البشع” تحكي عن مخازيها في فيتنام، تأخذ طريقها للنشر دون أن تكترث الجهات الأمريكية.
ثم تجيء المرحلة التالية، بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وتفرّد أمريكا بقيادة العالم، تحت مظلة النظام الدولي الجديد، حيث لم تعد تكترث بأي صورة مشوهة قد تُعطى عنها، بل على العكس، إنها تتعمد، كما حدث في عهد “بوش” الابن، أن تكشف عن هذا الوجه لكي تقول للناس: ليس ثمة ما يتهددني.. فأنا سيّدة العالم!
على المستوى الحضاري، تغيّرت المعادلة، بعد أن وصلت الحضارة الغربية إلى الطريق المسدود، والآن فإن العالم ينتظر البديل، قصر الوقت أم طال، ولن يكون هذا البديل إلا إسلامياً، أو على الأقل مشاركة إسلامية في إعادة صياغة مصير العالم، فيما يعترف به ويؤكده مفكرو الغرب وكتَّابه وفلاسفته، بعد أن درسوا كل صيغة واستعرضوا كل بديل فلم يجدوا فيها الجواب.
فنحن –إذن- المطالبون بصياغة المشروع الحضاري البديل وتقديمه للبشرية، بعد أن أخفقت كل النظم والمبادئ الغربية الواحدة تلو الأخرى: نظرية تفوق الرجل البيض، الاستعماريات العتيقة، الشوفينيات الكبرى، الوجودية، الماركسية اللينينية، ثم ها هو ذا النظام الرأسمالي يتعرض لاهتزازات عنيفة، ويصل إلى طرق مسدودة.
وإذا كان عالم الإسلام في خمسينيات القرن الماضي يلفظ أنفاسه، ويكاد يتلاشى في حضارة الغرب، فإنه اليوم يجد ذاته، أو –بعبارة أدق– يتحتم أن يجد ذاته، لأن العالم ينتظر منه إشارة الخلاص، وتلك هي سُنة الله في خلقه، ومداولة الأيام بين الناس.
إن محفّزات المحاولة كثيرة، ومن بينها وصول الحضارة الغربية إلى الطريق المسدود، وعجز النصرانية المحرّفة، وانقفال اليهودية، ولا واقعية البوذية والأديان الشرق أقصوية، وانهيار الوضعيات الاستعمارية، والشوفينية والوجودية والشيوعية، والهزّات العنيفة التي أصابت الرأسمالية، فضلاً عن وحدة العالم والتبادل السريع للتأثير في ظل العولمة، وازدياد الوعي وتراكم الخبرة، وتطابق مؤشراتها مع المعطى الإسلامي، وقوة الجذب في الإسلام، وانسجامه مع مطالب الإنسان، هذا إلى قيمة التوحيد الكبرى في هذا الدين باعتبارها عملاً تحريرياً في مجابهة كل صنوف الضغط، والابتزاز، والاستلاب، والقهر، والحتميات بأشكالها وصنوفها كافة.
ولكن، وبالتأكيد فإن هناك في المقابل معوّقات كثيرة لا يكاد يحصيها عدّ تقف أو ستقف في مواجهة المحاولة، بعضها يجيء من الداخل من مثل التشبث بالمظهرية الدينية بعيداً عن الجوهر والمغزى، وانعدام الثقة بالذات، وغياب الفقه الحضاري، وعدم اختيار عناصر التأثير في العقل والوجدان الغربي، وضياع أولويات العمل وخطط وبرامج التنفيذ، وإعاقة النخب المتغربة والزعامات المعادية للدين في الديار الإسلامية.
وبعضها الآخر يجيء من الخارج متمثلاً بدور الاستعمار الجديد والغزو الثقافي، والجهود الأسطورية التي تبذلها وترسم لها القوى الدينية المضادة صليبية وصهيونية.
لكن هذا كلّه لا يبرّر الكف عن المحاولة، ولا يدفع إلى وقفها عن المضي إلى أهدافها المشروعة لصالح الإنسان في العالم كله، فقط إذا خلصت النيّة وأحسنت صيغ العمل.