اتجهت الأمور للهدوء مجدداً في سريلانكا، وحطت عواصف الاضطهاد البوذي رحالها أخيراً بعد نحو أسبوعين من الاعتداءات العنصرية من قبل بوذيين متطرفين من عرقية السنهاليين، ضد المساجد والمحلات التجارية ومنازل المسلمين في عدد من المدن شرق ووسط البلاد، ما اضطر الحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ لعشرة أيام وفرض حظر للتجوال في بعض المناطق.
أمبارا نقطة البداية
تعود بداية الأحداث الأخيرة إلى مساء الإثنين 26 فبراير الماضي، عندما هاجم نحو مائتي عنصر بوذي مسجد “الجمعة” في مدينة “أمبارا” شرقي البلاد، وقاموا بتحطيم الأبواب والنوافذ وأحرقوا مكتبة المسجد بما فيها من كتب ومصاحف، بل لم تسلم المحلات التجارية للمسلمين في ذات المدينة وسيارات مملوكة للمسلمين.
هذه الحادثة تعد الأولى من نوعها في مدينة “أمبارا” وهي مدينة معروفة بوجود أغلبية ساحقة للبوذيين من طائفة السنهاليين، ونسبة ضئيلة من المسلمين والتاميل الهندوس، لكن مدناً أخرى شهدت أحداثاً مماثلة في أوقات سابقة، إذ تشهد سريلانكا مثل هذه الاعتداءات التي تستهدف المسلمين من وقت لآخر، سواء في عهد الرئيس السابق ماهيندا راجاباكسا، أو الحالي مايتيريفالا سيريسسنا.
أيادي العنصرية تزحف على كاندي
بعد نحو أسبوع من أحداث مدينة “أمبارا”، اتسعت رقعة الاعتداءات العنصرية من قبل بوذيين متطرفين ضد المسلمين وممتلكاتهم ومساجدهم، حيث انتقلت إلى منطقة “كاندي” في مدينة “ديجانا” وسط البلاد، إذ خرج مئات من البوذيين من طائفة السنهاليين في حشود غاضبة بقيادة رهبان متطرفين في منطقة كاندي، وهاجموا مساجد ومحلات تجارية ومنازل للمسلمين، فأحرقوا بعضها وحطموا أخرى.
من جانبه، قال الشيخ أنس عبدالمجيد، داعية وناشط في أعمال خيرية” لـ”المجتمع”: “خشية اتساع نطاق الاعتداءات في “كاندي”، أعلنت الحكومة حالة الطوارئ في 6 مارس ولمدة عشرة أيام وكذلك فرض حظر للتجوال مساءً، في محالة للسيطرة على الأحداث، وبالتزامن مع قدرة السلطات على الإمساك بزمام الأمور في “كاندي” بفضل حالة الطوارئ وتقييد الحركة واعتقال نحو 230 من العناصر المعتدية حتى الآن من بينهم أميت ويراسينجا، مؤسس حركة ماهاسون بالاقايا، وهي حركة سنهالية متعصبة، إلا أن رقعة الاعتداءات اتسعت إلى مدن أخرى، والتي بدورها شهدت استهدافا لمنازل ومتاجر المسلمين ومساجدهم أيضاً، لكن سرعان ما اتجهت الأمور مؤخراً إلى الهدوء الحذر لكن تبقى كل الأطراف في حالة ترقب وسط تخوفات في أوساط المسلمين من تجدد مثل هذه الاعتداءات.
وخلال زيارته مدينة “كاندي” ذات الأغلبية المسلمة، دعا الرئيس السريلانكي مايتيريفالا سيريسينا، سكان المنطقة إلى الهدوء وأمر الشرطة بإجراء تحقيق عادل حول العدوان على المسلمين، كما حث جهات إنفاذ القانون على ضمان سلامة وأمن السكان في المنطقة، وبالتزامن مع ذلك أعلنت وزارة التعليم إغلاق جميع المدارس الحكومية في منطقة كاندي.
حصيلة العنصرية في أسبوع
خلفت هذه الاعتداءات التي شنها متطرفون بوذيون من طائفة “السنهاليين” واستهدفت المسلمين في عدة مدن كان النصيب الأكبر منها في مدينة “كاندي”، خلفت حالة وفاة في صفوف المسلمين وإصابات متنوعة، و176 منزلاً ما بين حرق وتدمير جزئي، و 26 مسجداً ما بين حرق وتحطيم نوافذ وأبواب، وأكثر من 160 محلاً تجارياً، وتحطيم 56 سيارة مملوكة لمسلمين.
شرارة الأحداث
وعن الأسباب المعلنة أو الدوافع المباشرة لهذه الاعتداءات يقول “د. إنعام الله مسيح الدين – أمين عام مجلس الشورى الوطني”: إن الأحداث التي شهدتها مدينة “كاندي” ومدن أخرى، تعود إلى حادث جنائي يحدث في كثير من دول العالم، ليس له أية علاقة بالطائفية من قريب أو بعيد، إذ وقعت مشاجرة بين سائق بوذي يقود شاحنة (أعلن عن وفاة السائق بعدها بأسبوع في المستشفى) وشبان مسلمين في عربة “توكتوك” عقب حادث مروري بين الطرفين، كان هذا الحادث هو القشة التي قصمت ظهر البعير، أو الشرارة المعلنة التي استغلها المتطرفون لإشعال فتيل كل هذه العنصرية، رغم أنه كان قد تم التصالح بين عائلة الضحية البوذي ومسلمي هذه المدينة الذين دفعوا تعويضات مادية لعائلة الضحية، لكن المتعصبون الذين ينتظرون مثل هذه الحوادث الطبيعية لإشعال فتيل الأزمات كانوا لها بالمرصاد، وتشير لنا مصادر من سريلانكا إلى أن الراهب البوذي المتطرف “كالابودا أتي نجانا سارا” زعيم حركة “بودوبالاسينا” البوذية، زار منزل الضحية البوذي في الرابع من مارس الجاري، وقد أجج هذا الراهب ومتطرفون آخرون دعوات الانتقام من المسلمين.
لكن “مسيح الدين” يرجع الدوافع الحقيقية لهذه الاعتداءات، إلى أسباب ودوافع سياسية.
معلومات أخرى في هذا سياق هذا الحادث قد تشير إلى دلالات خطيرة تكون المنطلق لمثل هذه الاعتداءات والتي تبدو أنها ممنهجة وليست عشوائية، إذ ذكر لنا “أحد المصادر” – تحفظ على ذكر اسمه – أن السائق البوذي لم تكن في الأساس حالته سيئة بعد الحادث والمشاجرة، بل توجهوا إلى قسم الشرطة لعمل محضر ثم طالبتهم الشرطة بالتوجه إلى المستشفى، وبعد 3 أيام من مكوثه في المستشفى تم نقله بشكل مفاجئ إلى الرعاية المركزة ثم أعلن عن وفاته وسط غموض وشكوك في أنه قد جرى تسميمه من قبل بوذيين متطرفين لتأجيج مشاعر الكراهية ضد المسلمين وإطلاق دعوات للانتقام.
يضيف المصدر نقلاً عن بعض أئمة المساجد أن بعض عناصر الأمن كانوا يتواطؤون مع البوذيين المتطرفين ضد المسلمين في بعض المناطق، إذ كانوا إما يعتدون على المصلين في المساجد أو يتلكؤون في إيقاف العناصر المتطرفة، وأشار إلى أنه في السنوات الأخيرة كانت تتصاعد دعوات الكراهية ضد المسلمين مناهضة لإطلاق اللحى والحجاب ورفع الأذان وكانت هناك اعتداءات متقطعة على المساجد مثل إلقاء لحوم الخنازير المتعفنة على المساجد وإلقاء قنابل حارقة على بعض المحلات التجارية للمسلمين.
قرابين الانتخابات
في مقالة له يقول محمد بلعاوي، رئيس منتدى آسيا والشرق الأوسط: إن هذه الأحداث الأخيرة لم تأت بعيدة عن نتائج الانتخابات المحلية التي أظهرت تفوّق الحزب الجديد للرئيس السابق راجاباكسا، وهو حزب “الشعبي العام”، وهو ما يمكن أن يعدّ مؤشراً على إمكانية عودته إلى الحكم قريباً، خصوصاً إذا أفضت ضغوطه على الرئيس الحالي مايتريبالا سيريسينا إلى إجراء انتخابات عامة مبكرة”.
ويضيف بلعاوي: “علماً بأنها ليست المرة الأولى التي تقترن فيها الهجمات الموجهة ضد المسلمين بالانتخابات؛ ففي عام 2014م شهدت سريلانكا – قبل الانتخابات الرئاسية بأشهر- حوادث مشابهة أوسع نطاقاً، قُتل خلالها أربعة أشخاص وجرح العشرات.
حركة “بودوبالاسينا”
ويشار إلى أن حركة “بودوبالاسينا” وهي حركة بوذية متطرفة تعني “القوة الضاربة البوذية” وتعرف اختصارا بـ (BBS) وقد أنشئت هذه الحركة إبان ولاية الرئيس السابق “ماهيندا راجاباكسا”، وتدين له بالولاء، هي من كانت وراء أحداث 2014م، وكذلك الأحداث الحالية، وقد شُرّد آلاف من المسلمين إثر تدمير منازل ومساجد ومحال ومصانع مملوكة للمسلمين، في جنوب غرب البلاد، نتيجة أعمال تقف وراءها هذه الحركة، ويُعتقد أن هذه الحركة كانت السبب الذي دفع المسلمين إلى معاقبة الرئيس السابق والتصويت لصالح الوزير المنشق عن حكومته هو الرئيس الحالي “سيريسينا” والحزب الوطني المتحد”، مما أدى لفوز هذا الأخير في الانتخابات؛ إذ أن أصوات المسلمين مثّلت النسبة المرجِّحة في انتخابات انقسمت فيها أصوات الأغلبية السنهالية.
عنصرية أيضاً
إلى جانب الدوافع السياسية ولعبة الانتخابات يرى فياض محمد، رئيس تحرير جريدة “ميل بارواي”: أن العنصرية أيضاً حاضرة بقوة في هذه الاعتداءات الأخيرة، إذ تشهد سريلانكا من حين لآخر دعوات كراهية تطلقها حركات بوذية متطرفة، ضد المسلمين، بدعوى أن هؤلاء المسلمين يسعون إلى حكم البلاد والإمساك بزمامها مستقبلاً، فهم ينجبون كثيراً، بل وصل الأمر إلى اتهامهم المسلمين بوضع مواد تسبب العقم للبوذيين في الملابس ووجبات المطاعم التي يمتلكونها.
كما يكشف أنه قبل نحو 10 سنوات بدأت بعض الحركات البوذية المتطرفة في الظهور على الساحة السريلانكية، وأصبح الرهبان ينشرون دعايات مضللة ضد المسلمين إيماناً بالمشروع البوذي الذي يرى أن منطقة جنوب شرق وجنوب آسيا هي بوذية خالصة، وانطلاقاً من مكانة هؤلاء الرهبان حتى لدى أعلى السلطات في سريلانكا، لكنه يرى في الوقت نفسه أن غالبية المواطنين السنهاليين يرفضون حملات الكراهية التي تشن ضد المسلمين على أيدي نسبة قليلة جداً من العناصر البوذية المتطرفة في البلاد.
ويوضح “فياض محمد” أن الدافع المباشر لحادث اعتداءات “أمبارا” هو اتهامات بوذية تزعم أن أصحاب المطاعم المسلمين وضعوا مواد مسببة للعقم في الطعام، وبناء على هذه المزاعم هاجم المتطرفون مسجد الجمعة في “أمبارا” ومطاعم للمسلمين في المدينة، ويكشف أن فحصاً تم إجراؤه على الطعام واتضح أن العينة المزعومة ما هي إلا مكون من “دقيق” وليس فيها أي مواد للعقم.
ويختتم فياض محمد بقوله: “إن غالبية مسلمي سريلانكا يشتغلون في التجارة أكثر من الزراعة والوظائف الحكومية، وهو ما يسبب حقد الحركات البوذية المتطرفة ضد المسلمين ويسعون إلى ضرب اقتصاد المسلمين وإضعافهم، كما تصب هذه الاعتداءات في صالح التجار البوذيين المنافسين للمسلمين.
المسلمون في سريلانكا
سريلانكا تتكون من أغلبية سنهالية هم بوذيين الديانة يمثلون 70% من السكان والتاميل هم هندوس الديانة نحو 12%، (وتعد اللغات “السنهالية والتاميلية والإنجليزية” لغات رسمية) إلى جانب المسيحيين حوالي 8%، والمسلمين 10%، وهم ينقسمون إلى 3 أعراق (مور، ملايو، هنود) ومنهم من أصول عربية من اليمن وأيضاً من ماليزيا والهند قبل التقسيم، ويبلغ المسلمون حوالي مليوني مسلم من إجمالي عدد السكان 22 مليون نسمة، يتركز حوالي 30% من المسلمين في الشرق، ويتوزع الثلثان الآخران في جميع أنحاء البلاد ومحافظاتها الـ25 محافظة.
وبالرغم من بعض الاعتداءات العنصرية من قبل جماعات بوذية في بعض المدن، إلا أن أحوال المسلمين تعتبر جيدة فهم يتمتعون بكامل حريتهم وحقوقهم في ممارسة الشعائر الدينية، كما أن لهم قوانين مستقلة في الأحوال الشخصية فضلا عن أن لهم برامج إسلامية في وسائل الإعلام، وهناك برلمانيون ووزراء مسلمون إلى جانب وزارة للشؤون الإسلامية.