إذا كانت الدنيا هي دار حرية واختيار، فإن يوم القيامة هو يوم قهرٍ وإجبار؛ ففيه لا يمكن لأحدٍ أن يتأخر عن العرض والميزان، أو يرفض المثولَ بين يدي الديان، أو يمتنع عن دخول النيران.
لذلك استخدم سبحانه وتعالى في هذا السياق صفة القهر لنفسه؛ فقال تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [إبراهيم: 48]، وقال: ﴿يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: 16].
فالكل مقهور، رئيس ومرؤوس، حرّ وعبد، غني وفقير، قوي وضعيف، مالك ومملوك.
وقد جمع سبحانه في هذا السياق مع صفة القهر صفة الوحدانية، فلا يقدر على هذا الفعل أحدٌ غيره، ولا يطلب معاونةً من أحدٍ لحشر الخلائق كلهم وحسابهم والحكم عليهم إما إلى جنّة أو نار.
والواحد سبحانه لا يحب أن يُشرَك معه أحد في الربوبية والألوهية وإفراده بالعبادة والتشريع، وقد أرسل الرسل لإقرار هذا الأمر وتوضيحه، ولا يقبل أيّ عمل يُتوجه به إلى غيره، فإذا أشرك العبدُ أحدًا معه -سبحانه- في العمل لم يُثبه عليه، وإذا جاء العبد يوم القيامة طالبًا الأجر والمثوبة على عمله هذا كان هذا البيان الإلهي الذي أخبر به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: “إِذَا جَمَعَ اللَّهُ النَّاسَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ”([1]).
هذا إذا كان صاحب العمل يعرف الله تعالى ويُشرك معه غيره.
فما بالك إن عاند أحد الخلق برفض الفطرة المركوزة فيه بالعبودية إلى قوةٍ عليا قاهرة مسيطرة مدبرة حاكمة، فإلى من يتوجه بعمله ويطلب منه الأجر والمثوبة؟
هل يتوجه إلى الناس بعمله ويطلب منهم الثواب؟
أم أنه يعمل العمل ولا يطلب أجرًا أو مثوبة من أي أحدٍ كائنًا من كان؟
هذا المعاند يُطلَق عليه الملحد، الذي يطعن في الأديان والرسالات والرسل، ولا يؤمن بالله الربّ الخالق البارئ، ويعتبره غيبًا؛ لأنه لم يره، ولا يؤمن إلا بما يشاهده وتقع عليه عينه.
والخلق على أصناف ثلاثة:
– صنف محّض العبودية لله سبحانه.
– وصنف أشرك مع الله تعالى غيره من خلقه سواء أكان بشرًا أم جنًّا أم ملائكة أم جمادًا أم حيوانًا.
– وصنف أنكر الأديان والرسل جملة وتفصيلاً، وأنكر الواجد الموجد سبحانه.
ومصائر الخلق في الآخرة إلى مكانين لا ثالث لهما ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: 7].
ولدخول الجنّة أو النّار أعمال وأسباب وطرق مؤدية إليهما، وشرط دخول الجنة الإيمان بالله وعمل الصالحات، وشرط دخول النار الكفر بالله وإتيان المعاصي والموبقات.
ومن يدخل الجنّة لا يخرج منها أبدًا، ومن يدخل النّار من العصاة قد يخرج منها إذا أدركته شفاعة الشافعين، أما المشركون فإنهم مخلدون في النار أبد الآباد.
والجنة محرمة على المشركين مهما طال مكوثهم في النار، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72].
والله تعالى قد يغفر أي ذنب عظيم إلا الإشراك به، قال -تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ [النساء: 116].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الدواوين ثلاثة: فديوان لا يغفر الله منه شيئًا، وديوان لا يعبأ الله به شيئًا، وديوان لا يترك الله منه شيئًا.
فأما الديوان الذي لا يغفر الله منه شيئًا فالإشراك بالله، قال الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾.
وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئًا قط فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه.
وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئًا فمظالم العباد بينهم القصاص لا محالة”([2]).
ولا يعني هذا أن الكفار المشركين لن يثابوا على أعمالهم؛ فالله -تعالى- يقول: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8].
ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيّن كيف يثاب الكافر على عمله فقال: “إن الله تعالى لا يظلم المؤمن حسنة، يثاب عليها الرزق في الدنيا، ويُجزى بها في الآخرة.
قال: وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يُعطى بها خيرًا”([3]).
فالكافر يثاب في الدنيا على عمله بخير يراه في نفسه وأهله وماله وولده، حتى يخرج من الدنيا وليس له عنده خير([4])، فعن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله، إن عبد الله بن جُدْعان كان يصل الرحم، ويفعل ويفعل، هل ذاك نافعه؟
قال: “لا؛ إنه لم يقل يومًا: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين”([5]).
ومصداق ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان: 23].
إلا إنه قد تنفع بعض المشركين أعمالهم يوم القيامة، لكنها لا تخرجهم من النار، بل تخفف عنهم العذاب؛ فعن الْعَبَّاس بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رضي الله عنه أنه قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ.
فقَالَ صلى الله عليه وسلم: “هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّركِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ”([6]).
قال القاضي عياض: “وقد انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، لكن بعضهم أشد عذابًا من بعض بحسب جرائمهم”([7]).
وقد ورد في الحديث أن الله تعالى يقول يوم القيامة: “شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا”([8]).
وقد تأوّل العلماء معنى قوله: “لم يعملوا خيرًا قطّ”، بأنه العمل الذي لم يصاحب التوحيد، أي أن هؤلاء “هم الذين معهم مجرد الإيمان”([9]).
ولعل ما سبق يأتي ردًّا على ما نراه عند البعض ممن يتعاطفون مع المشركين والملحدين الذين خدموا البشرية خدمات جليلة، ويدفعهم هذا الإكبار لأعمال هؤلاء أن يأملوا أن تنالهم رحمة الله -تعالى- مقابل هذه الخدمات غير المنكورة للبشرية.
والجنّة دار الله ومستقر رضوانه ورحمته، وكيف يدخلها من لم يؤمن بصاحب الدار مهما بلغ عمله في الدنيا.
وهؤلاء ينالون ثوابهم بحسن الذكر ودوام الأحدوثة وتناقل العلماء لنظرياتهم وأقوالهم، والبناء عليها أو نقدها.
ولو كانت العاطفة مع المشركين والملحدين نافعة أحدًا لنفعت أبا طالب عمّ النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم تشفع له أعماله من حمايته للنبي والدفاع عنه ونصرته إلا تخفيف العذاب، وليس الخروج من النيران.
ولو كان الأمر بالعاطفة لتعطلت قضية الإيمان والكفر والولاء والبراء، ولتساوى الكافر مع المؤمن في الآخرة في الثواب رغم عدم تساويهما في قضية العبودية في الدنيا.
الهوامش
([1]) أخرجه الترمذي في “تفسير القرآن”، باب: “وَمِنْ سُورَةِ الْكَهْفِ”، ح(3154) من حديث أبي سعد بن أبي فضالة الأنصاري، وقال: “هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ”.
([2]) أخرجه الحاكم في “المستدرك”، ح(8717) من حديث عائشة -رضي الله عنها، وقال: “هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه”، وتعقبه الذهبي بقوله: “صدقة ضعفوه، وابن بابنوس فيه جهالة”.
([3]) أخرجه أحمد في “المسند”، ح(14050) من حديث أنس t، وقال شعيب الأرنؤوط: “إسناده صحيح على شرط الشيخين”.
([4]) انظر: تفسير الطبري، (24/550).
([5]) أخرجه مسلم في “الإيمان”، باب: “الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل”، ح(214).
([6]) أخرجه البخاري في “مناقب الأنصار”، باب: “قِصَّة أَبِي طَالِبٍ”، ح(3883).
([7]) شرح النووي على مسلم، (3/87).
([8]) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم في “الإيمان”، باب: “مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الرُّؤْيَةِ”، ح(183) من طريق أبي سعيد الخدري t.
([9]) شرح النووي على مسلم، (3/31).