من القلائل الذين لم يسقطوا في مستنقع اللاإنسانية، المستنقع الذي وقع فيه أشباه المثقفين الأديب الشاب الرائع أحمد خالد توفيق.
أقول الأديب الشاب ولا أقول أديب الشباب رغم أنه كان الأشهر في مجال أدب الشباب والفانتازيا والخيال العلمي؛ لأن أحمد خالد توفيق الإنسان لم يغادر ريعان شبابه رغم أن السماء استقبلته بعد أن تجاوز الخمسين من عمره، وهذا هو السبب الأهم في عدم سقوطه في المستنقع، الذي يراه المغفلون من المثقفين المصنوعين بحراً من العسل؛ لأنهم فاقدون لحواس التذوق والذوق والشم ولم يبق لديهم إلا قليل من حاسة اللمس التي توهمهم أن كل لزج عسل.
والسبب الثاني لعدم سقوط الرجل أنه من جيل ما بعد الحقبة الناصرية، صحيح أنه ولد في مطلع الستينيات، لكنه بدأ يتكون فكرياً وأيديولوجيا في عصر السادات الذي كان مضطراً لأسباب داخلية وخارجية لأن يخفف من وطأة الظلم والقهر والاستبداد الذي مارسه الزعيم المزعوم قبله، ورغم أن مبارك حاول الرجوع للخلف فإن الزمن والظروف لم تمكنه من الرجوع إلا قليلاً.
والفرق بين المثقفين السابقين على أحمد خالد توفيق فرق جوهري وكبير، فأغلب السابقين عليه وعلى جيله نشؤوا وتربوا في وقت كانت فيه الشيوعية متوهجة، وكانت الاشتراكية بكل ألوانها وأشكالها وأطيافها هي البضاعة الرائجة في عالم يموج بالظلم والقهر، وأغلبهم اعتنقها وربما اقتنع بها أو ركب في مراكبها، فلما غرقت أو أوشكت على الغرق غرق بعضهم، وقفز أكثرهم وهم لا يلوون على شيء، فوقعوا أو أوقعوا في حجور أصحاب المصالح، وهذا ما جعل سقوطهم من نظر جماهيرهم ومن ثم سقوطهم في مستنقع اللاإنسانية أمراً حتمياً.
المستنقع الذي يبدأ السقوط فيه بشهادة أن لا استبداد في الاستبداد، ولا ظلم في الظلم، وأن عموم الخلق لا يرون الظلم عدلاً، ولا الاستبداد شورياً لأنهم لا يفقهون! وهذه هي الشهادة التي تدخل الساقطين في دين الملك وتفتح لهم أبواب المناطق الخضراء والعواصم الإدارية ليقوموا بأدوارهم في التهليل والتسبيح والتكبير والتعظيم لفرعونهم أو لنمرودهم أو لقيصرهم!
وميزة الراحل الكبير أحمد خالد توفيق وجيله أن عيونهم أوسع وآفاقهم أرحب، ومعلوماتهم وخبراتهم أكبر.
فهم الذي شهدوا انفجار الفقاعة الناصرية وضحكوا ملء أشداقهم على السقوط المدوي للصرح الشيوعي الشاهق الذي انبنى على “وش الأرض” بلا أساس ولا تخطيط ولا يحزنون، ومن ثم انكماش وانزواء النظرية الشيوعية الفارغة وتبرؤ متبعيها منها، وانحناء من تبقى منهم لاقتصاد السوق صاغرين مع احتفاظهم بدكتاتورية الحزب بعد أن اتضح أن دكتاتورية الطبقة هي أم الأكاذيب.
وهم أحمد خالد توفيق وجيله، هم الذين بكوا وما زالوا يبكون على أوطان مازالت محتلة وهي تدعي الاستقلال، وعلى أجيال من المناضلين المخلصين امتلأت بهم السجون والمعتقلات والمقابر بعد أن جوعوا وطوردوا وعذبوا وشوهوا.
إنهم ليسوا مثل الأبنودي المغني الأكول في كل الأفراح والأتراح، وليسوا مثل نجم الذي حجب عنه حبه وتحيزه للشيوعية والحشيش رؤية الدنيا وفرح بكونه “صنايعي” يجيد رص الكلمات وصناعة “القفشات”.
وبالطبع لن أقارنهم بالغيطي الذي عاصر تضييع الإخوان للأندلس ورأى اعتقال أشاوس مصر لقائد الأسطول الأمريكي، ولا بالمعتز بالله عبدالفتاح، ولا بوحيد عصره وزمانه حامد سيده!
ولكنهم، أحمد خالد توفيق وجيله، رجل مثل صاحب “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة”، و”لا تصالح” وهم ليسوا كثراً لأنهم ليسوا غثاء، ولكن واحدهم بأمة، والأمة كلها تحبهم وتوقرهم وتغفر زلاتهم ولا تختلف عليهم لأنهم استعصوا على السقوط.