اصطدمت رغبات الشباب المؤهل جامعياً ببعض الدول بغياب خارطة حقيقية للتنمية الاقتصادية
كثير من الدول العربية تفتح أبوابها للشركات المتعددة الجنسيات لتتعاقد على دعم شرعية النظام لا دعم اقتصاده
«الانتماء والهوية» للمجتمع العربي وتاريخه وثقافته الضحية الأولى للاكتساح العولمي للقيم
الشباب العربي أصيب بصدمات نفسية إزاء حالة دولهم الحريصة على إرضاء الغرب وليس شعوبها
اصطدم الشباب العربي في بداية العقد الثاني من القرن الحالي الحادي والعشرين بمواجهات عدة وقفت بكل قوتها ونفوذها ومصالحها المحدودة الضيقة أمام طموحات مشروعة وآمال كادت أن يبزغ فجر تحققها في ذلك الوقت، وكانت الدولة القُطرية أبرز هذه القوى التي وظفت كل طاقاتها وخبراتها الفنية والتقليدية واستثارت حلفاءها في تلك المواجهة مع الشباب العربي التي تحمل عنوان «مواجهات البقاء والوجود».
المواجهة الثانية التي ساهمت في تحطم طموحات الشباب العربي وهزيمة آماله، فهي موقف القوى الدينية على اختلاف مواقفها من مشروع حلم الشباب العربي، بين الرغبة في إعادة الشباب إلى بيت الطاعة للدولة القُطرية ونظمها السياسية المتحالفة مع الغرب، والخداع والتضليل بتحالفها مع النظم السياسية تحت لافتات «لا يجوز الخروج على الحاكم».
ونحاول أن نجمل فيما يلي مشهد الشباب العربي في العقود الثلاثة الأخيرة كعقود يمكن من خلالها الوقوف على أهم خصائص هذا المشهد وتطوراته ومستجداته وتحولاته.
الواقع الاقتصادي
نبدأ من الواقع الاقتصادي الذي يعاني فيه الشباب من اختناق لفرص العمل أو الحصول على ما يمكن من خلاله تلبية احتياجاته الأساسية من تعليم، أو تكوين أسرة أو ما إلى ذلك من احتياجات طبيعية لتلك الفئة، حيث اصطدمت رغبات الشباب المؤهل جامعياً وفوق الجامعي –لا سيما في الدول الكبرى مثل مصر- بغياب خارطة حقيقية للتنمية الاقتصادية، يكون الشباب مطلوباً وبقوة لهذه التنمية لا متسولاً لفرصة عمل يكفي بها احتياجاته الأساسية، وتشير الأرقام إلى تزايد نسبة البطالة في العالم العربي باعتبارها الأكبر على مستوى العالم؛ فعلى الرغم من أن الهرم السكاني العربي تمثل قاعدته قوة الشباب، فإن النسبة الأعلى للبطالة التي تقترب من 30% هي الأكبر على مستوى العالم في العام 2013م مقابل 13% عالمياً (بحسب تقرير التنمية الإنسانية العربية 2016م).
ومن هنا تحتاج فرصة الحصول على عمل إلى جهد غير عادي لا سيما أيضاً في ظل وجود جهاز إداري أظهرت دراسات عديدة تمرسه على الرشى والمحسوبية في الحصول على تلك الوظائف القليلة المتاحة (انظر: أحمد زايد وآخرون: الأطر الثقافية الحاكمة لسلوك المصريين واختياراتهم، دراسة لقيم النزاهة والشفافية والفساد، وزارة الدولة للتنمية الإدارية، أكتوبر 2009)؛ لذا اضطر الشباب العربي أن ينحو نحو الغرب عن طريق الهجرة وما يكتنفها من مخاطر الوصول والعيش كذلك، أو الدخول في دوامة الأمراض النفسية والاكتئاب، أو الجنوح نحو الانحرافات السلوكية والجنائية كفعل مضاد لإهمال الدولة والمجتمع لهذه لطاقة الكبيرة.
وفي ذات هذا الوضع الاقتصادي المتأزم للشباب تفتح الدول العربية أبوابها للشركات المتعددة الجنسيات لتخلق سوقاً للاستهلاك وليس للإنتاج، لاستثمار المال وليس لفرص عمل، وهذه الشركات بتعاقدها مع النظام السياسي إنما تتعاقد معه على دعم شرعيته لا دعم اقتصاده أو تنميته أو حل أزماته، ويأخذ منها النظام هذا الدعم في مقابل استغلال السوق المحلية التي تتراكم فيها البطالة والعطالة بين فئة الشباب بشكل واضح وعلى مدى عقود متتالية تزداد تلك الأزمة وتتفاقم.
ومن ناحية أخرى، يبحث النظام السياسي لهذه الدول العتيقة في التبعية والفساد إلى المؤسسات الدولية للاقتراض منها بكل الشروط التي تمليها ومنها تخلي الدولة –التي لم تكن أبداً- عن مفهوم الرعاية لشعبها وترفع عنه كل صور الدعم، وتحمله نتائج كل الأزمات التي تخلقها للحفاظ على وجودها.
وفي الوقت ذاته، فرضت الدول التحديث القسري على الشباب الذي قدمته الشركات متعددة الجنسيات من ناحية، واستهلاك التكنولوجيا الغربية من ناحية أخرى، بدءاً من “أطباق الدش” (الستالايت) إلى الهواتف المحمولة والإنترنت ووسائل التواصل والاتصال الاجتماعي، هذا التحديث الذي ضخ تياراً كاسحاً من القيم المعولمة هدد بالفعل القيم الأصيلة والخصوصية الثقافية لمجتمعاتنا، وكانت أداته هي فئة الشباب التي انعزلت عن تراثها الذي واجهته الدولة بكل قوة، وحاولت استيراد نماذج متغربة مثل الوطنية والقومية، لكنها لم تفلح وفشلت كل مشاريعها الوطنية والقومية التي حملت تلك الشعارات.
ومن ثم كان الضحية الأولى لهذا الاكتساح العولمي للقيم هو قيم “الانتماء والهوية” للمجتمع العربي وتاريخه وثقافته وحضارته، فمشروع العولمة الذي فتحت الدولة القطرية له كل أبوابها ودون حذر أو شروط يهدف ضمن ما يهدف إلى محو الهويات الثقافية وسحق الخصوصيات الحضارية للأمم والشعوب التي تملك حضارة وتاريخاً وثقافة، في مقابل إعلاء النموذج المعرفي المادي الغربي واعتباره النموذج الوحيد الباقي والصالح، كما أعلن “فرانسيس فوكوياما” في “نهاية التاريخ وخاتم البشر”.
أصيب الشباب العربي بصدمات نفسية عميقة إزاء حالة دولهم التي كانت حريصة على إرضاء الغرب وليس إرضاء شعوبها تكريساً للمبدأ الرئيس الذي قامت عليه في القرن العشرين –في ظل “سايكس بيكو”- وهي فكرة “التبعية”، وأرادت أن تجعل نظام تنشئة شعوبها يدور حول هذا المبدأ ولا يخرج عنه، ومن ناحية أخرى أعاقت الدول كل محاولات توظيف طاقات الشباب، ولو على المستوى القيمي، فواجهت الحركة الإسلامية بصورة ناعمة تارة وبصورة خشنة تارة أخرى.
وفي نهاية عام 2010م فوجئ الشباب العربي العالم ببداية ثورات الشتاء، متجاوزاً كل صدماته النفسية والاقتصادية والقيمية، ليعلن عن وجوده ومكانته التي فقدها في ظل رغبة الأنظمة في البقاء ولو على أجساد شعوبها، ويعلن عن مشروع جديد تتمثل أركانه في عناصر ثلاثة، هي: الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ولا تخلو هذه الأركان الثلاثة من رمزية ومبدئية لفكرة مشروع عربي ناهض، فالحرية تعني تجاوز كل شبكات التغييب والتجهيل والتزييف التي عاشت عليها الدول ونظامها السياسي وأركانه، فهي تعني في ذلك المشروع كشف الغطاء عن الحقيقة الاجتماعية والعوامل التي أثرت في تزييفها وفي تجهيل الناس والتغرير بهم.
لقد مثلت فكرة “الحرية” ذلك الشعار الأول مرتكز مشروع الشباب الذي تصوروه لحالهم ومستقبلهم، ثم كان الشعار الثاني “العدالة الاجتماعية” مؤشراً لفهم عميق لميلاد مجتمع جديد يقوم على شبكة علاقات اجتماعية قوية تتجلى فيها العدالة بكل صورها؛ فتحلل المجتمعات والحضارات يبدأ من تحلل شبكة علاقاتها بالأساس، وأي بناء جديد أو ميلاد جديد للمجتمع لا بد أن يبدأ من شبكة علاقات اجتماعية وثقافية تحمل المجتمع إلى بناء نهضة وقيام جديد.
أما الشعار الثالث فهو البعد الحضاري والإنساني الكامن في مشروع الشباب –الذي انطلق فجره في ثورات الشتاء- وهو “الكرامة الإنسانية”، وهو رسالة على عمق وعي الشاب العربي برسالته الحضارية التي انطلقت منذ أكثر من أربعة عشر قرناً لتعلن للعالم (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) (الإسراء: 70)، والكرامة الإنسانية في ذلك المشروع لا تنتصر لجنس دون جنس أو لعرق دون عرق، وإنما هي كرامة لكل ذي يدين أينما وجد وأينما كان وأينما حل وأينما ارتحل، لقد مثلت هذه النداءات الثلاثة (الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية) مرجعية فكرية لمشروع القرن للعالم العربي.
لم يمتلك الشباب العربي القوة المادية الكافية -في ثورات الشتاء- كي يتمكن من تحقيق حلمه المشروع، أو مشروع حلمه الكامن منذ أكثر من قرن من الزمان، فواجهته الدولة (التنين) بكل ما تملك من قوة ناعمة وقوة غاشمة، واستطاعت عبر ثورات مضادة تقودها جيوش النظام أن تعطل ذلك الحلم قليلاً، إلا أنه فكرة لا يمكنها أن تموت لاسيما أنها رويت بدماء الشباب نساء ورجالاً، استطاعت دول الشتاء (الربيع) العربي بمعاونة الحلفاء في الشرق والغرب والمحيط الإقليمي أن تحول ثورات الشباب العربي إلى خريف بشكل مؤقت، فالأفكار المخزونة تبحث دائماً عن وقت للانطلاق، والفكرة لا تموت ولا تظل مخزونة أبد الدهر.