في عام 1931 حذفت جريدة “السياسة” الأسبوعية خبرًا صحفيًا، وعاقبت كاتبه بالفصل بقرار عاجل من رئيس تحرير الجريدة آنذاك، الكاتب الكبير إبراهيم المازني، لأن صاحب الخبر ترك فيه 7 أخطاء لغوية[1].
كان المازني (1889- 1949) واحدًا من الحريصين على اللغة، في وقتٍ كانت الحرب على أشدها ضد الفصحى لصالح العامية، هذه الحرب التي بدأت بواكيرها مع نشأة الصحافة مطلع القرن الـ19، في وقت كان الكُتاب يحشون عباراتهم بألفاظ تركية وإنجليزية وفرنسية، دون حرج.
تطور اللغة على يد الصحافة
ساهمت الصحافة منذ نشأتها في التطور الأكبر للغة العربية خلال العصر الحديث، بسبب طبيعة العمل، التي تفرض على الصحف إنتاجًا دوريًا من المادة المكتوبة بلغة صحفية، بالإضافة إلى أنها السبب في ظهور واستحداث ألفاظ ومصطلحات وتراكيب عدة، لا تعرف لها واضعًا، جيء بها من الترجمات واستعمال المجاز والاستعارات، إلى صفحات الجرائد.[2]
يضع باحثو الإعلام لغة الصحافة في منطقة وسط بين الكتابة الأدبية الشاعرية وبين اللغة العلمية الجافة من ناحية، ومن ناحية أخرى بين الفصحى الكلاسيكية، والعامية الدارجة.
منذ بدايات الصحافة أُسند إليها – طوعًا أو كرهًا – مهمة التثقيف، هذه المهمة التي لم يكن لها اسم رائج حتى عام 1926، إلا في منثورات من كتابات «سلامة موسى» مثلًا، إلى أن فسر هذا المصطلح، الصحفي «محمود عزمي» (1889 – 1954) في جريدة “السياسة” الأسبوعية.
بنهاية القرن الـ19 ظهرت اقتراحات باستعمال ألفاظ بديلة للألفاظ الأجنبية، التي تسللت إلى اللهجة العامية ومنها إلى الصحافة، مثل «تلغراف»، «مانيفاتورة»، و«صالون»..
من الطريف أن «الهلال» في عدد أبريل 1893، انتقدت استخدم «مدره» بدلًا من «أفوكاتو» – الـ«مِدْرَه» هو المتحدث باسم الناس أو زعيمهم – التي اقترحت استخدامها بعض الصحف، وعقبت بأن لفظة «محام» هي الأصح، لمعرفة الخاص والعام بها، وأن كلمة «عدد» لا تؤدي معنى «نمبر» أو نمرة»، بل الأصح أن نقول «رقم»[3].
أما الألفاظ التي استحدثتها الصحافة، فقد جمع بعضها المؤرخ «عبد الله كنون» في بحث نشرته مجلة مجمع اللغة العربية عام 1983، ومنها: «بعثة أثرية»، «أدوات مكتبية»، «تأشيرة»، «جواز سفر»، «محكمة الاستئناف»، «حرب أهلية»، «آلة تصوير»، «آلة كاتبة»، «ملاحة بحرية»، «ابتدائية»، «مبادرة»، «بدل أتعاب»، «برقية»، «بصمة الأصابع»، «بطولة رياضية»، «بلدية»، «متحف»، «نخبة»، «جدول أعمال»، «تيار كهربائي»، «ثلاجة»، و«ثورة».. ومن التراكيب: «يرى بالعين المجردة»، «إجراءات إدارية»، «تجنيد إجباري»، «الجنس اللطيف»، «أرصاد جوية»، «حبر على ورق»، «حادث سير»، «رئيس تحرير»، «حوالة بريدية»، «شذوذ جنسي»، «مواد غذائية»، «قانون الغاب»..[4].
سلطان العامية
نشأت الصحافة مطلع القرن الـ19، بأيد لم تكن مصرية خالصة، واتهمها كثيرون بأنها كانت لسان حال السلطة والحكومة وأرباب الجاه [5]، غير أن التأريخ الخاص لتلك النشأة يوافق نشأة «الوقائع المصرية» عام 1828، بأربع صفحات على عمودين، وكانت المقالات تُحرر باللغة التركية، وتنشر ترجمتها على العمود الموازي.
14 عامًا قضتها «الوقائع المصرية» على هذا الحال، وبحلول عام 1842 تولى «رفاعة الطهطاوي» مسئولية الإصدار، فقرر تمصير الجريدة، وأصبحت اللغة العربية هي اللغة الأصلية للمقالات واحتلت العمود الأيمن لأول مرة، والقرار الثاني، هو نشر أخبار العالم، وهو ما كان يستدعي توسيع مجال ترجمة الأخبار والمقالات.
يرى «أنور عبد الملك» في كتابه «نهضة مصر» أن القائمين على الترجمة في ذلك الوقت كانوا من الهواة غير الدارسين، ولم تتسع دائرة التخصص إلا عقب عودة البعثات، ولم يكن ذلك قبل 1840.[6]
كان من الطبيعي أن تقتحم الألفاظ الأجنبية المعربة لغة الصحافة عن طريق الترجمة، فكان من العادي أن تقرأ مثلًا خبرًا عنوانه: «افتتاح برلمنتوه إنكلترة» – برلمنتوه يعني برلمان – واجتمع مع هذا الغزو اللغوي من جانب الترجمات، ركاكة الأسلوب وازدحام العبارات بالمحسنات.
في الوقت ذاته كان سلطان العامية يتسع أكثر، التيار الذي اندفع مرة واحدة مع ظهور الصحافة لم يكن ليقف دفعة واحدة، فصدرت عدة مجلات بالعامية منها: أبو نظارة، والسيف، والمسامير، وحمارة منيتي، وغيرها.
كل شيء كان عاديًا، حتى قبيل الثورة العرابية بعام واحد، عندما أصدر «عبد الله النديم»، جريدة «التنكيت والتبكيت»، ومع أنها كانت تصدر بالعامية أسوة بغيرها ،إلا أن النديم، وهو أحد محبي اللغة، كان يدافع عن العربية بين حين وآخر، ويجمع في كتاباته بين الفصحى والعامية في الغالب [7].
انتشار العامية تسلل حتى إلى الصحف التي صدرت بالفصحى، فظهرت أخطاء لغوية، جعل بعض الصحف تستعين بالأزهريين لمراجعة الأخبار والمقالات قبل طباعتها، وتصحيح الأخطاء النحوية واللغوية، وربما كان ذلك أول ظهور لمهمة «الديسك» أو المراجع اللغوي في الصحافة.
اللطيف أن الصحفيين والقراء كانوا قبل الثورة العرابية لا يفرقون بين جريدة ومجلة، إلى أن جاء اليازجي ليضع حدًا فاصلًا بينهما، عندما أصدر مجلته «الطبيب» عام 1884، ثم “البيان والضياء”.
ضد اللغة العربية
لم يكن تيار العامية مندفعًا وحسب، بل إن بعض الصحف تبنت دعوات صريحة لمهاجمة اللغة العربية الفصحى، ودارت معارك بسبب تلك الدعوى، ومن أولى الصحف التي تبنت الأمر «المقتطف»، عندما اقترحت عام 1881 كتابة العلوم بالعامية، اللغة التي يفهمها الناس، أسوة بالدول الأوروبية.
في عام 1893 بدأت حملة شديدة واضحة ضد الفصحى، أطلقها المهندس الإنجليزي «ويليام ولكوكس»، مفتش الري في مصر، في خطبة ألقاها، قال فيها: إن سبب تأخرهم هو اعتمادهم على اللغة العربية [8].
كان من مؤيدي تلك الفكرة سلامة موسى، لكن تصدى لها إبراهيم اليازجي، ثم ظهرت مجلة «المهندس للأبحاث الرياضية والعلمية»، باللغة الفصحى، وكأنها رد على خطبة ولكوكس، الذي عاد عام 1926 بترجمة أجزاء من الإنجيل بالعامية المصرية.
لم ينته الأمر عند هذا الحد، ففي عام 1899 اقترح أحمد لطفي السيد (1872-1963)، في عدة مقالات كتابة الألفاظ كما تنطق، بمعنى إلغاء الفتحة والكسرة والضمة واستبدالها بحروف، بقصد الاختصار والبعد عن الإعراب.
على الرغم من كل الدعاوى، كان للصحافة دور في الحفاظ على اللغة وكان لها أنصارها الأشداء، ومما يذكر أن «الرافعي» هاجم مقالًا نشرته مجلة «البيان» 1912 دعا إلى تمصير اللغة، وشنت عدة صحف حربًا على «عبد العزيز فهمي» بسبب طرح فكرة إبدال الحروف اللاتينية بالعربية.
استمرت المعركة بين الفريقين، انتصرت الفصحى في النهاية، لكن تركت العامية آثارها، حتى أصبحت الصحف تستخدم ألفاظًا عامية وتركية وأجنبية، فرضت نفسها على الصحافة، في الفترة من 1881 إلى 1955، مثل: «كمبيالة»، «قومسيون»، «دوشة»، «أسطى»، «مهرجان»، «كوكتيل»، «فوتوغراف»، «كاريكاتير»، «بوليس»، ومصطلحات أخرى كثيرة أصبحت من لغة الصحافة.
تصحيح لغة الجرائد
نعود إلى إبراهيم اليازجي، وهو أكثر المدافعين عن العربية، والذي قبل أن يرحل في عام 1906، ترك كتابًا مهمًا في تصويب أخطاء الصحافة، سماه «لغة الجرائد» نشره عام 1904، وفي 1925 ظهر كتاب في نفس المجال، اسمه «إصلاح الفاسد من لغة الجرائد» لـ«محمد سليم الجندي»، كان هدفه تقويم ما وقع فيه اليازجي من هفوات [9].
استكمالًا للمنهجين في تصحيح لغة الإعلام أصدر الشيخ «عبد القادر المغربي» عام 1930 كتابه «تعريب الأساليب»، متناولًا خطأ الصحافة في التعريب وكيف دخل اللحن، ومع أن الكتاب يمكن أن يكون متشددًا في اللغة، إلا أن كتابه كان مهمًا، فيتناول مثلًا كيف أن المترجمين أخطأوا فاستخدموا «أثّر عليه» بدلًا من «أثر فيه»، وأمثلة كثيرة مثل ذلك.
في بحث نشرته مجلة «مجمع اللغة العربية» 1983، يقول الباحث «محمد عبد الغني» عضو المجمع، عندما اقتحم الشيخ إبراهيم اليازجي ميدان الصحافة، وهو اللغوي الكبير، كان ثالث ثلاثة أحدثوا نقلة في لغة الصحافة، مع «أحمد فارس الشدياق»، و«محمد عبده»، وعلى أيديهم تخلصت الصحافة من السجع والتكلف [10].
الواضح أن الألفاظ التي تسللت إلى الصحافة بين منتصف القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، سواء كانت ألفاظًا عامية أو أجنبية أصبحت متداولة على ألسن العامة، وفي الكتابات الصحفية إلى الآن.
في دراسة أعدتها الدكتورة «سامية الشرقاوي»، أستاذ التاريخ المعاصر المساعد بجامعة الملك فيصل، ونشرتها مجلة «كلية البنات» بجامعة عين شمس 2017 تقول: إن حجة الصحف في استخدام العامية كان تقريب المعنى وفهم البسطاء، وظهر ذلك جليًا في النصف الثاني من القرن 19 [11].
نتيجة لذلك تدهورت أساليب الكتابة شعرًا ونثرًا واستثقلت العربية، ولأن الصحافة كانت هي وسيلة الإعلام الوحيدة، فقد ساعدت على انتشار مفردات عربية كثيرة، وأدخلت بعض الكتب هذه الألفاظ في مادتها اللغوية.
مع هذا التطور الصحافي، تطورت اللغة، فلم يعش أيهما بمعزل عن الآخر، وكما كان للعامية أنصار، كان للفصحى أصدقاء أوفياء، دافعوا عنها وصححوا أخطاء الكُتاب، ومنهم «إبراهيم اليازجي»، و«أسعد داغر»، و«نجيب شاهين» وغيرهم كثير، ومن كل ذلك خرجت لغة الصحافة.
المصدر: “إضاءات”.