الأصل في أي برنامج حواري بين طرفين أو أكثر أن يَعرِضَ كلُّ شخصٍ وجهةَ نظره عن المسألة المطروحة للبحث بأسلوب حضاري هادئ بعيدٍ عن التشنُّجات والإثارة والتعصب والألفاظ النابية، بهدف تسليط مزيدٍ مِن الضوء عليها، ورفْعِ وعي المتابع، ومَدِّه بمعلومات جديدة؛ لكسبِ تأييده بتقديمه للأدلة والشواهد التي تَدْعَمُ رؤيتَه، ومِن ثَمَّ كَسْبُ رأي عموم الجمهور المتابع لصالح وجهة نظره عن الموضوع، ولا بأسَ طبعًا مِن بعض الاندفاع أو الحماس التلقائي غير المتكلف ضمن حدود معقولة؛ لتأكيد مسائلَ أو نقاط معينة يراها المتحاورُ بالغةَ الأهمية.
لكنَّ ما نراه منذ زمنٍ -وما زال في بعض برامجنا الحوارية العربية الساخنة، وربما الملتهبة في بعض الأوقات- هو تقريبًا نقيضُ ذلك؛ حيث يَستميت كلُّ طرفٍ في الدفاع عن وجهة نظره بشتَّى الوسائل، بتسخيفه للآخرين وتَحقيرهم، وشَتْمِهم أحيانًا برفْع الصوت الذي يصل إلى حدِّ الصُّراخ، مع الانفعال الشديد الذي قد يَقلِبُ الحوارَ مِن تلاسُن عنيفٍ إلى تراشُق بما هو متوافر من أشياء على طاولة الحوار، وأحيانًا يتطوَّر الأمرُ إلى عراك جسدي ومضاربات تستدعي تدخُّلَ المقدِّم وطاقمِ عمل الأستوديو؛ لفضِّ الاشتباك، وإنهاء منظر هذا الصراع المخجل المثير للاشمئزاز.
السبب واضحٌ، وهو أن أغلب هؤلاء المتحاورين لم يَحضُر أصلًا لهدفِ النقاش البنَّاء؛ ليُعطي ويأخذ، ليُقنِع ويَقتنع، بل جُلُّ همِّه تسجيلُ أكبرِ عددٍ من النقاط ضد خَصْمه كما يَحصُل في المنافسات الرياضية، ولو بطريقة غير قانونية قد تَنطلي على الحَكَمِ؛ ليَبدوَ أمام مؤيِّديه بمظهر الفائز في النهاية، وحتى لو قدَّم الطرفُ الآخر من الحُجج والبراهين الموضوعية ما يُدحِضُ وجهةَ نظره.
للأسف الجمهور نفسُه في أحيانٍ كثيرة ليس بأفضلِ حالًا مِن المتحاورين، فطيفٌ واسع مِن المتابعين لهذه البرامج الحوارية، ليستْ غايتُهم الفائدةَ والاستماع بالدرجة الأولى، بل الاستمتاع بقيام مَن يَصْطَفُّون معَه مسبقًا من الأطراف المتحاورة بسَحْق خصومه بأيَّ طريقة كانت، حتى لو تجاوَز الحدودَ، وخرَج عن الموضوعية تمامًا، كما تؤيِّد الغالبيةُ فريقَها، وتُهلِّل له، وتتعصَّب عندما يُسجِّل هدفًا تَحومُ حولَه الشكوكُ.
المصدر: “الألوكة”.