الإعلام الحر هو أعظم إنجازات التواصل الإنساني في الحداثة في الحضارة المعاصرة. ورسالة الإعلام الحر هي «تنوير» الرأي العام بالأخبار الصادقة، ونشر الحقائق، وكشف الزيف ومقاومة الكذب وإذاعة الرأي والرأي الآخر في كل ما هو مصلحة عامة.
مهمة وسائل الإعلام الحرة «الحديثة» أن تسهم بفعالية في تدريب الجمهور العام على كيفية النظر في القضايا المثارة من زوايا مختلفة، والموازنة بين مختلف الآراء، وتمحيص الحجج والبراهين والأدلة وفق محاكمات عقلية رشيدة. ولكن ما جرى ولا يزال يجري هو أن «الحداثة الإعلامية» بهذا المعنى تعمل في بلادنا بالمقلوب؛ فبدلًا من التنوير نجدها تمارس التضليل أو التعتيم، أو هما معًا، وعوضًا عن تعزيز التعددية وثراء الأفكار وتنوعها، نجدها ترسخ «الرأي الواحد» وعبادة الشخص، وفي الوقت الذي انتظرنا فيه أن تسهم في ترشيد الجمهور وحثه على احترام التفكير العقلاني، وإعلاء المصلحة العامة، إذا بها تسهم بهمة ونشاط في تغييبه وإعاشته في عالم من الأكاذيب والخزعبلات والأنانية.
“المسألة الإعلامية” ليست مسألة ترفية أو هامشية؛ وإنما هي مركز التوجهات الاستراتيجية للمجتمعات المعاصرة، وبخاصة في ظل التقدم الهائل في وسائل نقل المعلومات والصور والأخبار والآراء.
عندما تتحلل وسائل الإعلام في أي بلد من آداب رسالتها النبيلة، وتنتهك أخلاقياتها؛ فإن ضررها يكون أكثر من نفعها، وعدمها يكون أفضل من وجودها؛ لأنها قد ترتد سلبيًا على الوعي الجماعي فتسممه بقصد أو بدون قصد، فيسقط هذا «الوعي» صريعًا في هوة «اللاوعي» بلا قدرة على حماية نفسه، ويصبح عاجزًا عن مواجهة أعدائه. يصبح الوعي الجماعي كالشخص المسموم، يتشنج ويتلوى وهو فاقد الرؤية، معدوم الإدراك.
قبل أكثر من 40 سنة، صاغ أستاذنا الراحل الدكتور «حامد ربيع» مصطلح «التسميم السياسي»، وقصد به بشكل أساسي قيام عدو خارجي بإفقادنا ثقتنا بذاتنا عبر التلاعب بالعقول بوسائل متنوعة تحكمها «اللاأخلاق»، وهذا المعنى لا أقصده هنا، إنما أقصد ما أسميه «التسميم الإعلامي» الذي تمارسه أغلب وسائل الإعلام في بلادنا منذ أكثر من نصف قرن، حتى انحطت بالوعي الجماعي إلى مستوى بالغ التدني والتشوه والسطحية.
“التسميم الإعلامي” أقصد به هذا الانقلاب الوظيفي في أداء وسائل الإعلام الحديثة في بلادنا، التي توظف منجزات ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات فائقة السرعة وواسعة الانتشار، لتحقيق أهداف مضادة على طول الخط لقيم الحداثة والتنوير التي ولدت من رحمها، إذ تعمل هذه الوسائل بدلًا من ذلك في خدمة سلطات الاستبداد السياسي ليقهر قوى التحرر، وتشد من أزر الظلم الاجتماعي لينتشر الفقر، وتزدري الذات الحضارية لتتعزز الهيمنة الأجنبية.
“التسميم الإعلامي” يقصف “الوجدان”، ويدغدغ العواطف، ويشتت الانتباه الفردي والجمعي كي يتمكن من تقديم الأكاذيب في صورة حقائق، ويعمي الحقائق ويطمسها، ويصور الفشل على أنه قمة النجاح، والنجاح على أنه الإخفاق بعينه، والصديق في صورة العدو، والعدو في صورة الأخ والصديق الحميم.
القائمون بالتسميم الإعلامي يطلبون منك أن تسلم وجدانك لهم، وأن تلغي عقلك تمامًا، وأن تبرد إحساسك إلى حد التجمد، وأن ترهف السمع إلى ما يقولون، وألا تحدق كثيرًا بعينيك في وجوههم كي لا تكتشف شيئًا مما وراءها من ألاعيب الخداع، وأساليب التلاعب بالعقول. تراهم يرفعون أصواتهم و«يزعقون»، وكثير منهم «يردحون» و«يولولون» في وجوه مشاهديهم، ويسبون، وبعضهم يخلع حذاءه على الهواء، أو يكيل الاتهامات للآخرين بلا عناء؛ معتمدين على أن مشاهديهم أو أغلبيتهم قد تهيئون فقط للاستماع، ولا فرصة لديهم للتساؤل: أصحيح هذا الذي أستمع إليه أم خطأ؟ أواقع هو أم محض خيال؟ هل يدعمه دليل أم هو محض أباطيل؟
التسميم الإعلامي في حالات الحرب مع العدو الخارجي مختلف عنه في حالات التنافس مع خصم سياسي داخلي. في حالة الحرب يكون التسميم الإعلامي واردًا من الخارج من جهة العدو، ويكون جزءًا من «التسميم السياسي» الذي أشرنا إليه وعرفنا أنه يستهدف هز الثقة بالذات التي تقاوم العدو، وإفقادها القدرة على التركيز، وتشتيت قواها في مسائل فرعية وقضايا جزئية بعيدة عن المعركة الرئيسية مع هذا العدو.
في حالة الحرب؛ يكون التسميم الإعلامي جزءًا من «التسميم السياسي»، وأداة من أدواته، فكل طرف من أطراف الحرب يوظف ما لديه من أسلحة لإلحاق الهزيمة، بغريمه بغض النظر عن الأخلاق والقيم على الطريقة المكيافيللية. والتسميم الإعلامي في حالة الحرب يكون خطره مقدورًا عليه، وخاصة إذا نهضت سلطات الدولة المستهدفة إلى اتخاذ الإجراءات الكفيلة بصون الرأي العام في بلدها من خطر هذا التسميم واسع المدى، والحد من فعالية وسائل إعلام العدو في أداء مهمتها وإفشالها إن استطاعت.
أما في حالة السلم والتنافس الداخلي بين قوى المجتمع وتياراته السياسية، فالأصل فيها هو ألا يستخدم أي طرف الأدوات الإعلامية في تسميم الوعي للنيل من المنافسين لتحقيق مكسب سياسي ما، وألا يسعى أي طرف أيضًا للتسميم السياسي من باب أولى؛ لأن المعركة تنافسية في خدمة الوطن، وليست في مواجهة أعداء خارجيين. لكن الواقع يشهد خلاف ذلك؛ إذ تجري عمليات التسميم على مدار الساعة، وهنا نكون أمام كارثة بكل المقاييس؛ إذ يفقد الوعي الجمعي القدرة على تمييز الصواب من الخطأ، والنافع من الضار، ويستشري داء «التناكر» لا التآلف، وتتبارى أجهزة الدولة العميقة في شراء وسائل الاتصال الجماهيري، وتبني لها أذرعًا قوية فيها، ويستجيب لها ذوو الأنفس الضعيفة، والعقول الشائهة المريضة، والأيدي الممتدة بالسؤال، والألسن المستطيلة بالإساءة، أو تقوم تلك الأجهزة بالسيطرة على تلك الوسائل الإعلامية وإرهابها والتحكم في اختياراتها على أقل تقدير.
أدوات «التسميم» الإعلامي الداخلية ناقلة ومنتجة للسموم التي تفتك بأبناء وطنها. هي ناقلة لسموم العدو الخارجي مع تخصيصها وحصرها فقط على الخصم الداخلي الذي تستهدفه تلك الوسائل، وهي منتجة لسموم محلية من مواد الكذب والاختلاق وقلب الحقائق وتزييف وقائع التاريخ. وفي هذه الحالة فإن المواطن المستهلِك لإعلام تسميمي من هذا الطراز، والمستهلَك (بفتح اللام) بسبب إعلام مسمم كهذا، لا يجد ذاته إلا ممزقة، ولا عقله إلا عاجزًا عن التفكير، ولا روحه إلا معذبة في كل حين، لا يكاد يقر له قرار، ولا يشعر بلحظة من الهناء ساعة من ليل أو نهار.
إن هناك فئات اجتماعية متميزة، وشخصيات من مستويات اقتصادية ذات وضعية جيدة جدًا، وليست لديها مشاكل حياتية أبدًا، ولكنها من فرط وقوعها تحت القصف الإعلامي المسمم تشعر أن حياتها جحيم، وأن يومها أسوأ من أمسها، وأن غدها أفظع من يومها، ويطاردها شعور مرعب يقول لها: إن سكوتها على الظلم الفاحش سوف يسلمها لأيادي «داعش» عاجلًا أو آجلًا، رغم أن ظاهر الحال يقول لها: اطمئني!
التسميم الإعلامي وقت السلم إذا مارسه طرف ضد طرف منافس له هو خطيئة وطنية، وجريمة سياسية. ذلك لأن هذا التسميم يجد أرضًا خصبة في مناخ الاستقطاب، ويستفحل في مناخ الاستئصال وتفاقم مشاعر السخرية من فريق تجاه فريق آخر. وأقول مشاعر السخرية، لا الكراهية رغم أنهما شعوران مرذولان، إلا أن شعور «السخرية» والاستهزاء عندما يسيطر على مجمل علاقات أبناء مجتمع ما مع بعضهم البعض، فهو علامة على وصول التناحر إلى حبل الوريد، ودليل على أن اقتراب ساعة استيقاظ «وحش الغابة» المختبئ في كل نفس بشرية وإطلاقه من عقاله بات وشيكًا؛ حتى ولو كانت هذه النفس قد هذبتها الحضارة وشذبتها التربية المدنية والدينية.
هذا بخلاف الشعور بالكراهية الذي رغم سلبيته وبشاعته يولد التحدي، ويشحذ الهمم، ويشعر كل طرف بوجوده وأهميته بالنسبة للطرف المقابل له، بل أهميته في الحياة عمومًا؛ الأمر الذي يدفعه للبحث عن فضائله ومكامن قوته وما يجلب به عطف الآخرين وحبهم له، أما الشعور بالسخرية فهو شعور استئصالي، وفعل عدمي يستهدف الخصم في أصل وجوده، ويرسخ لديه إحساسًا قاتلًا بأنه لا شيء ولا لزوم لوجوده.
لهذا اخترع أحد الخبثاء في الزمن الماضي عقوبة «التجريس» لبعض المذنبين؛ فكان يطاف بهم على حمار يركبونه بالمقلوب ويمشون وسط العامة والصبية الذين يمطرونهم بشتى ألوان الاستهزاء والسخرية، حتى إذا ما وصل موكبه «الحميري المقلوب غير المهيب» إلى غايته، وترجل ونزل على أرض قريته أو محلته، شعر أنه والعدم سواء، وأن باطن الأرض بات خيرًا له من ظاهرها، وألا مكان له بين الأحياء.
من حكمة الخالق سبحانه تعالى أن حذر المؤمنين ونهاهم عن السخرية من الآخرين، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} (الحجرات: 11).
تشغيل أدوات التسميم الإعلامي على النحو الذي نراه أمر لا يقره شرع ولا قانون، ولا يقبله ذو حسن أو ذوق سليم، وهو محض تقليد أعمى لما يحدث في بلاد فقدت الإحساس بالإنسانية رغم كثرة تشدقها بها، وهو عمل لا يتم إلا بأيدٍ خبيثة تساعد في التحطيم المعنوي لجميع مكونات أمتنا، المؤيدين من أبنائها والمعارضين، الحكام والمحكومين، والناكرين لغيرهم والمنكورين، المستأصِلين والمستأصَلين سواء بسواء. فعندما يصل أبناء الأمة إلى هذه الحالة يكون التسميم الإعلامي هو أشد أسلحة الصراع فتكًا بالواجدان العام، وباللحمة الوطنية، وبالوعي الجمعي.
يوفر التسميم الإعلامي الداخلي الجهد والوقت والمال على وسائل التسميم السياسي المعادي الخارجي، بل ينهض هذا الإعلام المعادي ليمد «وسائل التسميم الإعلامي» الداخلي بكل ما تحتاج إليه من خبرات، وأجهزة اتصال متطورة، وأموال كثيرة، ولا يبخل عليها بالإشادة والدعم المعنوي والإقرار لها بما يسمونه «الريادة».
عندما يصل مجتمع إلى هذه الحال يكون من الصعب جدًا إصلاح ما أفسده «التسميم الإعلامي» في وقت قصير، ويعسر ترميم ما خربه، ويتعذر تطهير ما أعطبه من الوعي الفردي والجماعي لأبناء الأمة. وفي اللحظة التي يفيق فيها الوعي العام، سيجد أن الطغاة ومقاولي التسميم من الإعلاميين الذي عملوا في خدمتهم قد ذهبوا أو ذهب أغلبهم إلى حيث لا رجعة، وساعتها سيعض الذين أفاقوا بعد فوات الأوان على أصابع الندم حين لا ينفع الندم.
—-
* المصدر: موقع إضاءات.