لا أقدر.. لا أستطيع.. عزيمتي ضعيفة.. إمكاناتي محدودة.. نفَسي قصير.. لا طاقة بي على الصبر.. لا أُحسن أن أُصلي إلا هكذا، تلك الصلاة السريعة الخالية من الخضوع والخشوع والمناجاة، لا تحدثني عن أركانها وأوقاتها؛ فأنا أعرف هذا كله، لكني لا أحسن غير هذا الذي ترى!
أعرفُ أن إطلاق النظر إلى الغاديات الرائحات، يجلب عليَّ من الضر الآجل أكثر مما يجلب لي من النفع العاجل، أُدرك أنني لا أجني من ورائه إلا الحسرة والأماني التي لا تدرك، وأعلم أنه يُصعّب عليَّ الرضا والقناعة بما قسمه الله لي، لكن ماذا أفعل؟ غض البصر ليس بالأمر السهل، أحاوله، فلا أستطيعه، وأريده فأعجز عنه! لكم تمنيت الخلاص من إطلاق نظري فما استطعت، هذه هي قدراتي، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه!
آه.. التدخين، بالطبع لا.. لا أستطيع أن أعيش بدونه، من حقك ألا تدرك ضرورته للمدخن؛ لأنك لست مبتلى به، أمَّا نحن فقد اختلط بلحمنا وعظمنا، ولا طاقة لنا عنه، وما مثلنا ومثلك إلا كما قال الشاعر:
يا لائمي في الهوى العذريّ معذرة
منّي إليك ولو أنصفت لم تلم
ومن قال لك: إنني لا أحب أن أغطي شعري؟ أنا أعلم أنه أمر الله، فأنا أحفظ قوله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) (النور: 31)، وكم سمعت قوله صلى الله عليه وسلم لأسماء، لكن اتخاذ هذا القرار ليس بالأمر الهين، إنه قرار مصيري، يحتاج إلى إعدادات كبيرة، إعدادات نفسية واجتماعية، وهذه الاستعدادات دونها تحديات كبيرة، أنا أتمنى أن تزول كلها، وأن تأتي تلك اللحظة التي أنتصر فيها على كل هذه التحديات، لكنها للأسف لمَّا تأتِ.. ولا أعرف متى ستأتي، هذا علمه عند الله.
قيام الليل.. يا سيدي ماذا تقول؟ يبدو أنك لا تعيش مطحنة الحياة التي نعيش، إنني بالكاد أعود إلى البيت، فأنام، لأبدأ في الغد عناءً جديداً.. وهكذا دواليك.
قيام الليل هذا كان في وقت يعيش فيه المسلمون على أُعطيات تأتيهم كل شهر دون عناء، فتغنيهم عن التعب والنصب طوال النهار، لقد كان حوضهم ملآناً، وروضهم أُنُفاً، أما نحن، فإنني أكون ابن تيمية عصري إن أنا حافظت على الصلوات الخمس في مواعيدها!
رمضان يفضح الأكاذيب
هذه نماذج من إجابات كثيرين ممن حولنا، ممن يريدون بحق أن يغيروا حياتهم للأفضل، لكنهم يعتقدون أنهم لا يقدرون.
يأتي شهر رمضان الفضيل ليكشف زيف هذه الرؤى، ووهاء هذه التصورات، يأتي ليكشف للإنسان أنه يقدِر، وأن بداخله إمكانات وقدرات كافية ليس لتغييره هو للأفضل فقط، بل لتمنحه القوة أن يغير ما حوله ومن حوله للأفضل.
يأتي شهر رمضان، فيكتشف المدخن الذي كان يحسَب أنه لا يصبر على ترك التدخين ساعة أو ساعتين، أنه هو هو الذي يصبر الآن أربع عشرة ساعة متواصلة وهو صائم.
نعم، هو هو، دون أن يخضع لعملية جراحية، ولا إلى جلسات نفسية بين يدي طبيب نفساني، إنه هو هو الذي كان يظن أنه عاجز عن ذلك، فإذا بالقدرات تتفجر بين جوانبه، ليتعرف على نفسه من جديد أنه قادر ومستطيع، ولم يكن يمنعه إلا سوء الظن في نفسه.
لم يكن يمنعه إلا أنه لا يريد أن يجرب.. لم يكن يمنعه إلا استسلامه لعادة، حسِبها طبعاً لا يتغير، أو خِلقة لا تتبدل، إنه لم يكن عجزاً إذن، ولكنه كان شعوراً بالعجز، يذكيه الشيطان، وينميه استسهال الواقع وتسويغه لإسكات صوت الضمير!
يأتي شهر رمضان، فيكتشف ذلك الشخص الذي كان يصلي صلاته كيفما اتفق، أنه قادر على الحفاظ عليها في جماعة في المسجد، أن رجليه لا يزال بإمكانهما التوجه إلى المسجد، أن خطواته لا تزال تعرف الطريق إلى المسجد، أن المسجد لم يُغلق دونه، أنه لا يزال له في المسجد مكان، يتوق إليه.
نعم، يكتشف أنه يستطيع أن يُحرز درجة أعلى من تلك الدرجة الضعيفة الباهتة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن العبدَ ليصلي الصلاةَ؛ ما يُكْتَبُ له منها إلا عُشْرُها، تُسْعُها، ثُمْنُها، سُبْعُها، سُدْسُها، خُمْسها، رُبْعُها، ثُلْثُها، نِصْفُها” (رواه ابن المبارك في الزهد، وصححه الألباني في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم 1/ 15).
يأتي شهر رمضان، فتغطي كثير من المتبرجات شعورهن، لتعرف أختنا أن تلك التحديات، وتلك العقبات، وتلك الاستعدادات، كانت من نسج خيال أوحى به إليها الشيطان، وتسويغ الواقع إسكاتاً لتأنيب الضمير، ها هي بكل سهولة تجر غطاء تغطي به شعرها، دون أن تتنكر لها الحياة.
الشعور الوهمي بالعجز
ولعلك الآن تسأل عن صاحبنا الذي كان يرى أن قيام الليل يحتاج إلى أُعطيات بيت المال؟ إنه الآن هناك يصف قدميه في الصف الأول مع المسلمين خلف الإمام في صلاة التراويح الطويلة، التي تستغرق ساعتين، وربما أكثر من ذلك، إنه هو الذي ييمم وجهه نحو لافتات المسجد بعد الفراغ من صلاة التراويح؛ ليتعرف إلى موعد التهجد، الذي ربما يكون بعد ساعة أو ساعتين.
آه.. لقد ضاع عمر طويل في الانخداع بشعور العجز، حُدّث ابنُ عمر أنَّ أبا هريرة يقول: “مَن تَبع جنازةً فله قيراطٌ”، فقال: أكثرَ أبو هريرة علينا، فصدَّقَت -يعني عائشة- أبا هريرة، وقالَت: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقوله، فقال ابنُ عمر رضي الله عنهما: “لقد فرَّطنا في قراريط كثيرةٍ” (رواه البخاري).
يقول العلامة ابن القيم: “كمال كل إنسان إنما يتم بأمرين: همة ترقيه، وعلم يبصره ويهديه، فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين، أو من إحداهما؛ إما ألا يكون له علم بها فلا يتحرك في طلبها، أو يكون عالماً بها ولا تنهض همته إليها، فلا يزال في حضيض طبعه محبوساً، وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدوداً منكوساً، قد أسام نفسه مع الأنعام، راعياً مع الهمل، واستلان فراش العجز والكسل، لا كمن رفع له علم فشمر إليه، وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه، قد أبت غلبات شوقه إلا لهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن سبيل يرافقه في سبيله”. انتهى.
لقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من شيئين، قرنهما بعضهما بعضاً؛ العجز والكسل، وفي ذلك يقول ابن القيم: “الْعجز والكسل قرينان، فإن تخلف مصلحَة العَبْد وكماله ولذته وسروره عَنهُ، إما أن يكون مصدره عدم الْقُدْرَة فَهُوَ الْعَجز، أوْ يكون قادراً عَلَيْهِ، لَكِن تخلف لعدم إرَادَته فَهُوَ الكسل.
وَصَاحب الكسل يُلام عيه مَا لا يلام على الْعَجز، وَقد يكون الْعَجز ثَمَرَة الكسل فيلام عَلَيْهِ أيضاً؛ فكثيراً مَا يكسل الْمَرْء عَن الشَّيء الَّذي هُوَ قَادر عَلَيْه، وتضعف عَنهُ إرادته فيفضي به إلى الْعَجز عَنهُ، وَهَذَا هُوَ الْعَجز الَّذي يلوم الله عَلَيْه في قَول النَّبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله يلوم على الْعَجز”، وَإِلَّا فالعجز الَّذِي لم تخلق لَهُ قدرَة على دَفعه، وَلَا يدْخل معجوزه تَحت الْقُدْرَة لَا يلام عَلَيْه”.
قَالَ بعض الْحُكَمَاء في وَصيته: “إياك والكسل والضجر، فإن الكسول لَا ينْهض لمكرمة، والضجِر إذا نَهَضَ إليها لَا يصبر عَلَيْهَا، والضجر متولد عن الكسل وَالْعجز؛ فَلم يفرده في الحَدِيث بِلَفْظ”. (مفتاح دار السعادة 1/ 113).
راقب نفسك
راقب نفسك في رمضان وكأنك تعيد اكتشافها، فسوف تبهرك معرفتها من جديد، سوف تتعرف على مكامن قدراتها وإمكاناتها وإراداتها، سوف تعرف أنك لم تكن تعرف نفسك، وأنك كنت تظلمها بسوء الظن فيها، وبإحسانك الظن في أعدائها الذين كانوا يقبحونها في عينك، ويظهرونها أمامك أنها عاجزة، بل سوف تفاجأ أنك كنت واحداً من أعدائها.
وإذا وقفت بنفسك على قدراتها وإمكاناتها، فلا تعد بها إلى إحساس العجز، ولا إلى مدارج العجز، بل دعها تكمل سيرها دون أن تعيقها، وأحسن إليها بتشجيعها وحثها لتصل بك إلى مرضاة الله؛ فإنها مطيتك إلى ذلك.
فجّر فيها الطاقات الإيجابية، تعلم من أبي مسلم الخولاني حينما كان يفتر فيحث نفسه ويحدثها قائلاً: “أيظن أصحاب محمد أن يستأثروا به دوننا؟ كلا، والله لنزاحمنهم عليه زحاماً حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً”.