حينما جاءت الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر إذا بمجتمعاتنا العربية والإسلامية تلمس عن قرب مدى الفجوة التي باتت تفصل بينها (في الشرق) وبين الغرب، ومن هنا ثارت أسئلة لم تحصل على إجابات حاسمة حتى هذه اللحظة، بدليل هذا الصراع الكبير والاستقطاب الحاد اللذين يتخبط فيهما عالمنا العربي والإسلامي -إلا قليلاً- حول أمور تتعلق بتك الأسئلة.
ويمكن حصر الأسئلة المشار إليها –إلى حد ما- في أربع كبرى: سؤال الهوية [ويتناول بشكل أساسي دور الإسلام في عالمنا المعاصر؟ وهل يمكن الجمع بينه وبين الهوية الوطنية والقومية والعالمية؟]، وسؤال الأخلاق [ويشتمل بشكل أساسي على مصدريتها وطبيعتها ومدى نسبيتها من عدمه]، وسؤال الاستقلال [كيف نلحق بالعصر دون أن نقع في أسر التبعية ونفقد شخصيتنا الحضارية]، وسؤال النهضة [كيف ننهض ونصبح رقمًا عالميًا صعبًا؟ كيف نقود العالم كما كنا من قبل في عالميتنا الأولى؟ بل -على أقل تقدير- كيف ننهض بالقدر الذي نمتلك به قرارنا وإرادتنا؟]؛ هذه هي الأسئلة الأساسية التي دارت حولها الكثير من صراعاتنا حتى تحولت إلى مجال للسجال والقتال، لا محل للتفاعل الإيجابي البناء، فإذا بنا نطرح إجاباتها بصيغة الطرح لا الجمع، بمعنى أننا جعلناها معاول جديدة لهدم المهدم، وتفتيت المفتت، وتعويق المعوق!
ويبدو أن جذور هذا السقوط تعود إلى التخبط الذي أصاب فهمنا لتلك الأسئلة من الأساس وفي تقدير وزنها النسبي، وفي الفشل في ترتيبها بحسب أولويتها في البناء الحضاري، وفي فن التعامل مع تحدياتها، مما أسفر عن إضافة تخلف إلى التخلف، ووقوع في هاوية أكبر من الهاوية السابقة، فإذا بنا نزداد تقهقرًا وتخلفًا، في الوقت الذي ازداد فيه من أردنا اللحاق بهم -ثم سبقهم- تقدمًا وهيمنة وتسلطًا يوشك على أن يقتلعنا من هويتنا ويصادر أخلاقنا ويقتل الأمل في نهضتنا واستقلالنا، ويحتل عقولنا وإرادتنا وأراضينا احتلالا أبديًا!
وفي وسط تلك الظلمات إذا ببصيص من النور يظهر في وسط النفق، لا في آخره، يتجسد في لاعب كرة قدم عصامي، اسمه محمد صلاح، استطاع أن يصل إلى العالمية من دون مساندة من مجتمعه حقيقة، فقد كان لاعبًا مجهولاً لفظته الأندية الكبرى في بلادنا، أو تجاهلته في أحسن الأحوال، فإذا به يبني نفسه على مهل، ويقرر الهجرة إلى بلاد الفرص المفتوحة، إلى بيئة مشجعة على الفلاح لمن أصر عليه وسعى له سعيه غير متهاون ولا متخاذل، حتى وصل إلى أن أصبح –رسمياً- أحسن لاعب في أفريقيا، وهداف الدوري الإنجليزي وأحسن لاعب فيه (وهو الدوري الأقوى في العالم بحسب تقدير المتخصصين)، ووصل بفريقه الإنجليزي إلى نهائي دوري أبطال أوروبا، بعد أن قاد -قبل ذلك- منتخب وطنه (مصر) إلى العودة للمشاركة في نهائيات كأس العالم لكرة القدم بعد غياب ثمانية وعشرين عامًا، وأصبح مرشحًا للفوز بجائزة أحسن لاعب في العالم، بعد أن حطم كثيرًا من أرقام قياسية راسخة منذ عشرات السنين!
وكان من الممكن أن تنحصر تلك الإنجازات في مجال كرة القدم وحده، إذ كثيرًا ما حقق لاعبون آخرون ما يقترب من تلك الإنجازات، أو يتجاوز بعضها، ولكن اللافت بحق هو أن هذا الشاب الفتي لم يتأثر سلبًا بفتن المال والشهرة، بل على العكس، احتفظ بأخلاقه وهويته، وزاد من عطائه لوطنه ولفقراء قريته، كما ازداد احترام الناس له بمن فيهم منافسوه، وأخذ الأطفال يقلدونه في سجوده حين يحرز أهدافه المنهمرة في شباك الفرق المنافسة، حتى إن مشجعي فريقه الإنجليزي ألفوا له أغنية تبرز تدينه وتمسكه بدينه إلى حد الوعد باعتناق الإسلام إذا ما استمر في إحراز الأهداف!
ويمكن للمتابع أن يرصد عشرات المقالات والتقارير التي تتحدث عن صلاح وتأثيره فيمن حوله ونجاحه الكبير، ولكن ما استوقف كاتب هذه السطور هو أن هذا اللاعب –غير اللاهي- قد ألهمنا بإجابات منطقية للأسئلة الكبرى التي شغلت العقل العربي والمسلم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين ثم امتدت للقرن الحادي والعشرين؛ فها هو يحتفظ بهويته الإسلامية والعربية وبأخلاقه المستمدة من دينه ومن أعماق حضارته العربية الإسلامية حتى في ظل وصوله للقمة في ظل حضارة أخرى لا تزال تبهر العالم بتقدمها المادي وفي ممارستها –المتطورة- للتعددية والديمقراطية، ثم إنه حافظ على استقلاليته وحريته في تلك البيئة المغايرة تمامًا لبيئتنا، سلبًا وإيجابًا، ولم يمنعه ذلك قط من استمراره في النهوض للقمة رغم محاولات مضنية من ملاحقة بعضنا له بتشوهاتنا التي حاولت أن تحاصر نجاحه وتصيبه بالإحباط، عبر السخرية من سمته الإسلامي هو وزوجته، ومن خلال محاولة استغلال حيائه في جعله وسيلة للاسترزاق المادي، بغض النظر عن خطورة إفقاده لسمعته بالطعن في جديته ووفائه بالعقود!
الحاصل أن صلاح قدم لنا -بإنجازاته الأخلاقية والنهضوية- إلهامات وإشارات إلى السبل الصحيحة للتعامل مع الأسئلة المزمنة التي طرحت على أمتنا، فهذا هو دور الدين في معركة الهوية، أن يمدنا بالعزيمة على تحقيق أهدافنا المشروعة، وبالإصرار اللازم على الوصول للقمة مهما كانت التحديات، وأن يكون سلوكنا متخلقًا بأخلاق القرآن الكريم، مع عدم تصادمه مع قطعيات الشريعة الإسلامية، فلا يقصر في أداء فروضه، ولا يجهر بارتكاب محرماته، وذلك دون تكلف وافتعال للأزمات، أو الاستجابة لاستدراجات تغرسه في سجالات فجة ومعطلة تقلب أولوياته وتوقف إنجازاته، أو التصادم مع دوائر الانتماء الأخرى.
أما سؤال الأخلاق فقد ألهمنا محمد صلاح بأن إجابته الصحيحة تكمن في التحلي العملي بمكارم الأخلاق، وأن نصدق في ذلك دون ادعاء أو رياء، فتنعكس على سلوكياتنا، وعلى ما تنطق به ألسنتنا، وأن منطلقنا للالتزام الراسخ بها يتمثل في تعاليم ديننا الحنيف، حيث سيعيننا على مقاومة كافة المغريات التي يمكن أن تفتتنا عن الطريق القويم، أو تزحزحنا عن الطريق المستقيم، وذلك دون أن نصطدم بالضرورة مع المخالفين لنا أو نفقد احترامهم بل وحبهم وإعجابهم.
وحين نصل إلى سؤال الاستقلال، فإننا سندرك بالتأمل في مسيرة محمد صلاح بأن الأساس في استقلالية الإنسان (والوطن والحضارة) هو التحرر الداخلي، أن تكون حرًا من داخلك، تأبى الضيم، وترفض التبعية الذليلة، وتضع أهدافًا مرحلية للتخلص من الهيمنة التي فرضت عليك، حتى تصل إلى مرحلة الاستقلال والحرية على أرض الواقع بعد أن تفرضها فرضًا.
أما سؤال النهضة فإجابته أصبحت واضحة الآن بعد أن رأينا ما حققه محمد صلاح خلال عدة سنوات؛ إنه كل ما سبق وبالكيفية نفسها التي سار عليها محمد صلاح؛ العمل الجاد الدؤوب، الذي لا يكل ولا يمل، ويستغل كل لحظة متاحة من الوقت لتطوير الذات، لا يوقفها يأس ولا إحباط، ولا تتعلل بالضغوط والعوائق، فهي تلتمس الطريق دومًا نحو التفوق والريادة، وإذا لم تتوافر البيئة المناسبة، فعليها أن تتنقل إلى بيئة أخرى مواتية تفتح لها الباب، وتذلل لها العقبات، وهنا تكمن العبرات والعظات!
إن محمد صلاح لم يحقق ما حققه في وطنه، بل اضطر للهجرة ليحقق ذاته، فهل هذا الخيار يصلح للشعوب والأمم؟
بالطبع الإجابة هي بالنفي؛ فإن نهضة الأمة لا يمكن أن تجري عبر هجرة مواطنيها إلى الخارج، ليس فقط لاستحالة ذلك عمليًا، ولكن لأن هذا الأمر لو تحقق فإن النهضة حينئذ ينبغي أن تنسب إلى البلاد المتقدمة التي جرت الهجرة إليها ووفرت البيئة المناسبة وليس إلى الأمة المهاجرة!
لقد بات من نافلة القول أن البيئة في غالبية بلادنا العربية والإسلامية لا تساعد على النجاح الحقيقي، المبني على الجد والاجتهاد والكفاءة، فهي تفتح المجال فقط للوصوليين والطفيليين للوصول إلى نجاحات محلية زائفة ومناصب لا يستحقونها، وصلوا إليها عبر النفاق والوساطة، وليس هذا بمستغرب في “أرض النفاق”!
ولكن النفاق المتفشي في بلادنا هو –في الحقيقة- مجرد عرض من أعراض شيوع القهر والجهل والاستبداد، الذي يحول البشر إلى “كائنات شهوانية مستضعفة” لا يهمها إلا الحصول على ما يشبع شهواتها المادية، من طعام وشراب وخلافه، دون التطلع إلى “ترف ورفاهية” العزة والكرامة والعدالة والحرية!
ولذلك فإنه على الرغم من إجابة الأسئلة الأربعة الكبرى التي شغلت العقل العربي والمسلم على مدى تاريخه الحديث، فإن هذه الإجابة لن تتفعَّل إلا بإجابة سؤال خامس؛ وهو سؤال الحرية والتحرر من الاستبداد المتغلب الذي يقهر الإنسان في بلادنا ويستنزفه في معارك أمعائه، دون أن يترك له وقت للتدبر في حاله والتفكير في الخلاص من علله وأمراضه، هذا الإنسان الذي لم يفقد قدرته بعد على الصمود والصعود إذا ما توافرت البيئة النظيفة التي تتيح له ذلك، مثله مثل محمد صلاح، ومن قبله أحمد زويل (رحمه الله) ومجدي يعقوب وغيرهم من الذين تعلموا في بلادنا ونجحوا ووصلوا للعالمية بعد هجرانها.
ولكن تبقى أهمية التعرف على إجابات الأسئلة الأربعة الكبرى التي ألهمنا بها محمد صلاح، في أنها إذا ما أدركتها شعوبنا فإنها ستستطيع أن تجيب عن السؤال الخامس بسهولة ويسر، فلن يوجد مستبد يتمكن من الهيمنة على شعوب متدينة تدينًا صادقًا، انتصرت في معركة الأخلاق، وحاربت لأجل نيل استقلالها بالعمل المتواصل الجاد، الذي سيتيح لها في النهاية الفوز في معركتها لنيل حريتها واسترداد عزتها وكرامتها.
ويومئذ يفرح المقهورون!
(*) كاتب وباحث مصري.