ما تزال مقولة ابن خلدون عن تأثر المغلوب بالغالب في شعاره وزيه ونحلته صادقة حتى وإن تلبثت بإطارها التاريخي، فالواقع في منجزنا الفكري مؤطر بما نشاهده ونلامسه عيانا.
تفتحت عيون العرب والمسلمين وقد انتهب الاستعمار بلادهم، استلبوا ثرواتهم، جاءوا بجيوش أهلكت، بعدما مهدت له الطريق جحافل المستشرقين تجوس المكتبات ومظان المخطوطات، غير أن نتيجة هذا الغزو الفكري لم تنكشف إلا عن مرارة وهزيمة فكرية.
ومن أخطر ما ترتب عليها ذلك التفرق والتنابذ؛ فالغرب حين نهب بلادنا لم يكن موحد اللغة ولكنه كان عاقد النية على تحقيق ثارات الماضي.
فالمغرب العربي تمت فرنسته بطريقة جهدت أن تقتلع اللسان العربي، ومن ثم يتميع الناشئة فلا يعرفون خلقا ولا يلتزمون شعائر الإسلام.
لكن في مصر لاعب كرومر الأزهر سخرية مرة، أو تقريبا لطائفة من أبناء العلية، يربيهم على عينه مرة أخرى؛ فهذا قاسم أمين يديرها معركة ضد الحجاب وعفة المرأة مدعيا ” تحرير المرأة”، أو الشيخ على عبد الرازق في كتابه” الإسلام وأصول الحكم”، وتطول القائمة لتضم طه حسين “في الشعر الجاهلي” وما يزال الحبل على الجرار.
كانت صدمة قاسية للعقل المسلم، فلا رعاية تلقاها غير ما احتمى به من حاضنة مؤمنة، لكن فئة من الشوام الموارنة كانت معدة بليل؛ لتنهب ثوابت اللغة وقواعد بنيانها، تذرعت بمبادئ الحرية زعما وبالتنوير سبيلا، تدور معركة في مقتل، وعين راصدة تتربص بإقامة كيان على أرض العرب، لم يعلن اليهود بؤرتهم السرطانية في الخامس عشر من مايو عام١٩٤٨م، وإنما يوم أن تنادوا لهدم الدولة العثمانية، أو أجهزوا على مشاريع النهضة؛ ولا يتبنى الكاتب نظرية المؤامرة إلا بالقدر الذي أسهم فيه العرب والمسلمون بسهمة من جهل ومن فقر ومن عداء للعلم وازدراء لسبله.
لقد كانت هزيمة حرب فلسطين كاشفة عن علل وأدواء توحشت في عقل المسلمين، فلما كانت المواجهة كان الواقع بكل انكساراته وتداعياته، لقد أصيب القوم في فكرهم وتصوراتهم، أعطوا للآخر زمام التوجيه؛ فلعب بهم كما الصبيان بالكرة.
إن أدهش الأمور ما هو ماثل بعقل النخبة التي تبنت مقولات زويمر وغلادستون؛ تدافع عنها كما لو كانت هي نبة أرضنا، أو حتى فعل أنفسنا، فبلغ التيه بالنابهين درب الفوضى والتشظى، مقولات صارت أشبه بالمقدس، وأفراد لا يحق بل يجرم من يتتبع آراءهم أو بستدرك عليهم ما فاتوه.
غاب مفهوم الأمة وانفصمت العلاقة بين التنزيل والواقع، غدا القوم أشبه بتائه فقد بوصلة الاتجاه، نحتاج إلى إعادة الثقة إلى مؤساستنا التربوية لتكون حائط صد وعامل تثبت لجذورنا التى توشك قوى الاستلاب على هدمها واقتلاع ما تبقى من صالحها.