داخل خيمة صغيرة نُصبت في مخيم “العودة” المُقام قرب الحدود الشرقية لوسط قطاع عزة، ينشغل مجموعة من الشبان الفلسطينيين في تجهيز عدد من الطائرات الورقية الحارقة، استعدادا لإطلاقها باتجاه المستوطنات “الإسرائيلية” المحاذية لحدود القطاع.
وألصق الثوّار الفلسطينيون، هذه المرّة، صوراً لعدد من الشهداء الذين سقطوا برصاص “إسرائيلي” خلال مشاركتهم في مسيرات “العودة وكسر الحصار”، المتواصلة منذ أكثر من شهرين، على ظهور الطائرات الورقية.
واعتبر الثوّار هذه الطائرات المشتعلة، التي تم إطلاقها باتجاه الأراضي المحتلة، نوعاً من الثأر لدماء شهداء “مسيرات العودة”.
ويطلق صانعي الطائرات الورقية المشتعلة، الذين باتت أعدادهم تتجاوز المئات، اسم “وحدة الزواري” على أنفسهم، نسبة إلى مهندس الطيران التونسي الذي أعلنت السلطات التونسية، بـ15 ديسمبر 2016، اغتياله بمدينة صفاقس، جنوبي البلاد.
واتهمت حركة “حماس” الاحتلال باغتيال محمد الزواري، الذي أعلنت “كتائب القسام”، الجناح العسكري للحركة، أنه كان عضواً فيها.
وبدأت “وحدة الزواري” في العمل بشكل عفوي فردي من قبل عدد من الثوار لا يتجاوز عددهم الخمسة، بعد أيام من مسيرة “العودة وكسر الحصار”، التي انطلقت فعالياتها في 30 مارس الماضي.
وتستند فكرة الطائرات الورقية الحارقة على ربط فتيل من القماش المُغمور بالمواد الحارقة، كالبنزين والكاز، في ذيل الطائرات الورقية، وإشعال النيران فيها قبيل إطلاقها.
وتصل تلك الطائرات الورقية الحارقة إلى الأراضي الزراعية التي اغتصبها المستوطنون في محيط قطاع غزة وتسبب حرائق فيها.
وعلى الرغم من أن التكلفة المادية لتصنيع الطائرات الورقية متدنية جداً وقد تصل إلى مبلغ دولار أمريكي للطائرة الواحدة، فإنها تكبّد الجانب “الإسرائيلي” خسائر تقدّر بملايين الدولارات.
واعتبر بعض المراقبين الأمنيين فكرة الطائرات الورقية المشتعلة، “أداة مبتكرة للمقاومة السلمية (الشعبية)”.
ويبدو أن “وحدة الزواري”، وفق المراقبين، نجحت في تحقيق أهدافها من إطلاق تلك الطائرات الحارقة، حيث يتم رصد إحراق مساحات واسعة من الأراضي الزراعية “الإسرائيلية”، بشكل يوميّ تقريباً.
ومن جانب آخر، تؤرق هذه الطائرات الورقية المشتعلة الجيش “الإسرائيلي” وأوساطه السياسية، خاصة وأن جميع المحاولات “التكنولوجية” التي اتبعها الجيش لمواجهة تلك الطائرات الورقية قد فشلت.
كما أثارت تلك الطائرات المشتعلة غضب الأوساط السياسية والعسكرية “الإسرائيلية”، وشغلت الرأي العام الداخلي؛ في ظل العجز عن مواجهتها.
ولجأ الجيش “الإسرائيلي” مؤخراً، إلى قصف المجموعات الشبابية التي تعمل على إطلاق بالونات أو طائرات ورقية مشتعلة.
وظهر أمس، قال الجيش في بيان بحسب “الأناضول”: أطلقت طائرة استطلاع نيران تحذيرية تجاه خلية كانت تقوم بإعداد بالونات متفجرة.
وأضاف الجيش: ننظر بخطورة إلى استخدام البالونات والطائرات الورقية الحارقة وسنعمل على منع استخدامها.
وكانت شبكة “كان” الإخبارية العبرية قد قالت في تقرير نشرته الأسبوع الماضي: إن محاولات “إسرائيل” في مواجهة الطائرات الورقية الحارقة التي يطلقها فلسطينيون من غزة “باءت بالفشل”.
وذكرت الشبكة أن “نسبة اعتراض الطائرات “الإسرائيلية” المسيرة للطائرات الفلسطينية الورقية الحارقة منخفضة جداً، وباءت محاولات “إسرائيل” لاعتراضها بالفشل، على مدار شهر.
ويستخدم الجيش “الإسرائيلي” الطائرات المسيرة بالتحكم عن بعد والتي تحمل كاميرات وأدوات حادة لاعتراض الطائرات الورقية التي تطلق من غزة، لكن هذه التكنولوجيا المتطورة لم تتمكن من اعتراض الطائرات الورقية البدائية إلا بنسبة منخفضة جداً، حسب التقرير.
وذكرت “كان” أن الجيش “الإسرائيلي” سيواصل استخدام الطائرات المسيرة لإسقاط الطائرات الورقية الحارقة حالياً حتى يتمكن من إيجاد حل عملي لها.
الفكرة تتمدد
ويقول الثائر الفلسطيني الذي يكنّي نفسه باسم أبو محمد (18 عاماً): إن أعداد الفلسطينيين الذين ينضمون إلى “وحدة الزواري” باتت كبيرة جداً، وقد تصل قريباً إلى الآلاف.
ويوضح في حديثه لوكالة “الأناضول”، أن حجم الطائرات الورقية المشتعلة يختلف باختلاف الميدان المستهدف.
ويبيّن أنه إذا كانت الأراضي الزراعية في الجانب “الإسرائيلي” مزروعة بالأشجار الخضراء، فإن ذلك يتطلب تجهيز أطباق ورقية كبيرة قد يتجاوز قطرها المتر ونصف المتر من أجل نجاح إشعال النيران فيها.
بينما إن كانت الأراضي مزروعة بالأعشاب وفيها أحراش فإنه يمكن إحراقها بالطائرات الورقية الصغيرة.
ويشير أبو محمد إلى أن تلك الطائرات قليلة التكلفة تكبّد الجانب “الإسرائيلي” خسائر بملايين الدولارات، وهذا ما هو مطلوب، على حدّ قوله.
ويذكر أن جمع أموال تصنيع الطائرات الورقية يتم بين الثوّار أنفسهم، خاصة وأن التكلفة قليلة جداً، نافياً وجود دعم من أي أطراف أو فصائل فلسطينية.
ويشعر أبو محمد، كباقي الثوّار الفلسطينيين، بالفرحة حينما يشاهد النيران تلتهم المحاصيل الزراعية “الإسرائيلية”، “انتقاماً لأرواح الشهداء”.
وأضاف: بالطبع المشهد يُثلج صدورنا، وخاصة أن المحتل “الإسرائيلي” يغتصب أرضنا، وهذه بداية العودة.
وتطورت فكرة إرسال الطائرات الورقية الحارقة، إلى إطلاق البالونات المُعبّأة بغاز “الهيليوم”، التي يُعلق في ذيلها قماشاً مغموراً بمواد حارقة مشتعلة، كما قال أبو محمد.
وتصل بالونات الهيليوم، وفق أبي محمد، إلى مسافات أبعد من تلك التي تقطعها الطائرات الورقية، حيث قد تصل إلى مسافة 4-5 كيلومترات داخل “إسرائيل”.
وفي نهاية مايو الماضي، ذكرت “القناة الثانية الإسرائيلية”، أن المتظاهرين الفلسطينيين في غزة أطلقوا نحو 300 طائرة ورقية حارقة منذ بداية تظاهرات مسيرة العودة نهاية شهر مارس الماضي.
وتسببت الحرائق التي أشعلتها بعض الطائرات الورقية خسائر لدى المزارعين “الإسرائيليين”، وصلت إلى عشرات الملايين من الشواقل (الدولار يساوي 3.5 شيقل تقريباً)، لكنها لم تذكر قيمة محددة للخسائر.
وأطلقت “القناة الثانية الإسرائيلية” على الظاهرة اسم “إرهاب الطائرات الورقية”، فيما وصفتها بـ”حرب الاستنزاف المتواصلة على جانبي السياج المحيط بقطاع غزة”.
ردود دولية و”إسرائيلية”
وبحسب موقع “واللا” العبري، فإن الطائرات الورقية الحارقة التي يتم إطلاقها نحو مستوطنات غلاف غزة تسببت باحتراق مساحات زراعية تقدّر بأكثر من ضعفي ونصف المساحة التي التهمتها النيران في حريق الكرمل عام 2010 (أكثر من 30 ألف دونم- باعتبار الدونم يساوي ألف متر مربع)؛ شمالي البلاد.
في تغريدة عبر حسابه على “تويتر”، هاجم مبعوث الرئيس الأمريكي للاتفاقيات الدولية جيسون غرينبلات، الثلاثاء الماضي، إطلاق الناشطين الفلسطينيين طائرات ورقية حارقة من قطاع غزة باتجاه المستوطنات “الإسرائيلية”، معتبراً إياها “أسلحة عشوائية”.
وكتب غرينبلات باللغة العربية في تلك التغريدة: “طائرات حماس الورقية المقاتلة ليست ألعاباً غير مؤذية أو تعبيرات مجازية للحرية، بل هي حرب دعائية وأسلحة عشوائية”.
وأضاف: “لقد أضرمت الطائرات الورقية المقاتلة التابعة لـ”حماس” النار مئات المرات، ودمرت آلاف الدونمات، وأهدرت ملايين الدولارات منذ نشوب العنف في الفترة الأخيرة (منذ مارس الماضي)”.
فيما قال عمير بيرتس، عضو “الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي” عن “المعسكر الصهيوني”، لصحيفة “معاريف” الأحد الماضي: إنه “يمنع التساهل مع قضية الحرائق، ويمنع الاستسلام لإرهاب الطائرات الورقية الغزية الحارقة، فالحرائق لا تأتي على أملاك فحسب، بل تسبب ضرراً كبيراً لمصادر دخل المزارعين “الإسرائيليين” الذي باتوا يخشون على مستقبلهم وعلى قدرتهم على استغلال أراضيهم”، حسب قوله.
ودعا بيرتس الحكومة “الإسرائيلية” إلى تعويض المزارعين وإلى تطوير آليات لمواجهات الطائرات الورقية الحارقة، كذلك طالب بتوجيه رسالة إلى حركة “حماس” بأنها ستدفع ثمناً باهظاً إذا استمرت هذه الظاهرة التي تنتشر أكثر وأكثر.
وفي ذات اليوم، أوعز رئيس الوزراء “الإسرائيلي”، بنيامين نتنياهو، بخصم مبالغ مالية من ميزانية السلطة الفلسطينية لصالح تعويضات لمزارعين “إسرائيليين”.
وتعتزم حكومة نتنياهو تقديم تعويضات لمالكي الحقول الزراعية المتضررة في مستوطنات محيط غزة، جراء الطائرات الورقية الحارقة التي يتم إطلاقها من القطاع، بحسب إعلام عبري.
وقالت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية: إن نتنياهو أوعز لرئيس “مجلس الأمن القومي”، مئير بن شبات، بالبدء في إجراءات خصم مبالغ (لم تحدد قيمتها) من ميزانية السلطة.
وعلى صعيد آخر، قال يهوشع سوبول، الكاتب المسرحي اليهودي، في تسجيل فيديو له تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي: “لو كنت طفلاً في قطاع غزة، وأصيب أخي برصاص قناص، وعاد جثة هامدة، أو معاقاً، فسأحرق الدنيا لأجله بالطائرات الورقية”.
وأضاف خلال الفيديو: “أنا آسف لاحتراق المحاصيل، لكن علينا أن نفهم أن النار لا يمكن إيقافها بالنار”.
وفي إطار “مسيرات العودة” يتجمهر آلاف الفلسطينيين، في عدة مواقع قرب السياج الفاصل بين القطاع والأراضي المحتلة، للمطالبة بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم التي هجروا منها عام 1948.
ويقمع الجيش “الإسرائيلي” تلك فعاليات مسيرة العودة السلمية بالقوة، ما أسفر عن استشهاد 127 فلسطينياً وإصابة أكثر من 13 ألفاً و600 آخرين.