ذكرنا في أن الحداثة برغم ما تلاقيه من نقد في الغرب فإنها تُقابَل بالتسليم في عالمنا العربي، ويسود الاعتقاد بأن عصور الحداثة هي بالضرورة أفضل من عصور ما قبلها، وأن الأوطان مع الحداثة تتقدم وتتطور وتزدهر.
وفي إطار تفنيد هذه الصورة الخادعة، نحاول في سلسلة المقالات هذه أن نرى أوضاع مصر قبل وبعد الحداثة من خلال مصادر تاريخية جديدة؛ هي الرحلات التي سجلها غربيون تمكنوا من الوصول إلى الحج ومرُّوا في طريقهم بمصر فكتبوا عن أحوالها.
واخترنا من بين تلك الرحلات رحلتي “جوزيف بتس”، و”ريتشارد بيرتون”، اللتين يفصل بينهما قرنان من الزمان، وكانت الثانية منهما بعد عصر محمد علي مباشرة في زمن ابنه سعيد باشا.
في هذا المقال، نلقي نظرة على الرحلتين والفوارق بينهما.
الموضوعية والذاتية:
كانت رحلة “بتس” أكثر موضوعية، بينما رحلة “بيرتون” أكثر ذاتية، فالأول يصف المدينة وآثارها والبحر والنهر والأهرام والأسماك والطيور والبط الذي يسبح في النيل وكيف يُصاد والخانات والأزياء والأسواق والبضائع والمباني وقطعان الماعز التي تدخل القاهرة وصاحبها الذي يحلبها مباشرة لمن يشتري منه اللبن كدليل على أنه لبن طازج وآبار المياه وكيف يُسحب منها الماء بالسواقي التي تجرها الثيران، يصف “بتس” كل هذا وَصْفَ المُشاهد المحايد الذي يرسم صورة موضوعية لما يراه(1).
بينما الثاني يصف مشاعره ووقع المشاهد على نفسه ويمزج الصورة الخارجية بانعكاسها في نفسه وما يؤلفه خياله منها، لذا تأتي عباراته في الوصف على هذا النحو: “لنستمتع بالمشهد”، “فيعطي سحراً وفتنة تعجز اللغة في التعبير عنهما”، “كأنما كنا نستقبل هذا القفر بودّ شديد”، “وكأنها أرواح سلاطين تحرس رعايا من الأشباح في سلطنة من ظلال”، “الحرارة المنعكسة تصفعنا بشكل محسوس، والوهج المنبعث من حصباء الطريق يكيل لنا مزيداً من الحرارة”.. وهكذا(2).
ولعل هذا يُعزى إلى تطور الأسلوب الأدبي في أوروبا، فـ”بتس” الذي خرج من أوروبا فتى صغيراً وصار جزءاً من الشرق ليس كـ”بيرتون” الرحالة المثقف الموسوعي الذي قرأ أدب الرحلات قبله، لا سيما رحلات الشرق التي كان يتفنن الغربيون في إضفاء السحر والجمال على مشاهدها وحوادثها، وهو تقليد غربي مستقر منذ بدأ الاستشراق وإلى زمن قريب.
سائح ومستعمر:
وفيما كانت رحلة “بتس” رحلة سائح يصف ناظراً ومُشاهداً، كانت في رحلة “بيرتون” لهجة استعلاء على الشرقيين(3)، وفيها روحٌ استعمارية كما في قوله: “ليس من أحد أدرك أي فكرة عن الدور الذي كنت أمارسه خلا الذين كانوا مطلعين على السر من البداية”(4)، ثم ظهرت هذه الروح ناصعة واضحة في بعض مواضع كقوله: “أما الآن فإن السلطات الوطنية ليس لها سلطة قضائية على الغرباء، ولا تدخل الشرطة بيوتهم، وإذا أرادت دول الغرب أن تقوي من عزم المسيحيين الشرقيين المشاركين لها في العقيدة فيمكنها أن تفرض نظاماً أشد مما هو عليه الآن بالسماح لكل الرعايا المسيحيين الشرقيين حَسَني الاعتقاد بأن يسجلوا أسماءهم في القنصليات المختلفة التي قد يفضلون الحصول على حمايتها”(5).
وكقوله: “أي دولة تضمن السيطرة على مصر تكون قد ربحت كنزاً، فمصر تحيطها البحار من الشمال والجنوب، وتحيطها الصحراء التي لا يمكن اجتيازها من الشرق والغرب، ومصر قادرة على تجهيز 180 ألف مقاتل، وقادرة على دفع ضرائب ثقيلة، ويمكن أن تقدم فائضاً كبيراً، فلو وقعت مصر في أيدي الغرب سهلت السيطرة على الهند، ومَكَّنت من فتح أفريقيا الشرقية كلها بشق قناة للسفن تصل البحر المتوسط بالبحر الأحمر عند السويس”(6).
وهو يرصد موقف الجهات التي يمكنها مقاومة الاحتلال وكيف ضعفت جهة العلماء التي هي الأشد في مجال المقاومة لحساب “رؤساء المؤسسات”، وسواء أكان يقصد رؤساء المؤسسات الإدارية بعد دخول الدولة في طور التحديث أم شيوخ الطرق الصوفية كما فهم المترجم؛ فالمهم أن هذه العقلية إنما هي عقلية محتل لا عقلية رحالة!
انفرادات الرحلتين:
وحيث كانت رحلة “بيرتون” أكثر توسعاً وتفصيلاً، فقد انفرد فيها بأشياء كثيرة لم يأت “بتس” على ذكرها مطلقاً، فمن ذلك حديثه عن البقشيش وتدخين الشيشة والقهوة، وعن الدراويش والسحرة، والمذاهب الفقهية، وشهر رمضان واحتفالات العيد، وعن كرم الضيافة، وأنواع الخدم وصفاتهم، وعن العطارين وطلب العلم، وعن الطب وممارسته والمرضى وأحوالهم وتعاملهم مع الطبيب ونظرة الناس إلى الطب الأوروبي وكيف يحتقرونه مقابل تقديرهم للطب الهندي والصيني، ونظرتهم وعلاقتهم مع العجم (الذين هم: الفرس الشيعة) وكيف تعودوا على التقية وإخفاء حقيقة آرائهم وكيف يفهم المصريون هذا عنهم، وشهد “بيرتون” تنادي الناس بالجهاد ضد الروس في حرب القرم، وهو مشهد لم يرد مثله عند “بتس”(7).
ومع هذا، فإن الاختصار الشديد في رحلة “بتس”، والتوسع في رحلة “بيرتون”، لم يمنع أن ينفرد “بتس” بذكر أمور لم يذكرها “بيرتون”؛ كحديثه عن الخصيان وهطول الأمطار –مصححاً بذلك خطأ شائعاً في وقته عن قلة الأمطار في مصر- والفيضان السنوي للنيل وأثره في الزراعة، والوصف الجغرافي لمصب النيل ورسو السفن(8)، ولعل “بيرتون” لم يحفل بهذا لانتشار الخرائط في عصره، وكون هذا الكلام مما صار معروفاً أو مما تجاوزته تقنية السفن والموانئ، إلا أن إمساك “بيرتون” عن وصف الفيضان غريب، خصوصاً وقد كان في مصر قبيل وقت الفيضان وهو أمر يستعد له الناس!
لكن أهم ما يفرق بين الرحلتين هو آثار “التحديث” التي تبدو في رحلة “بيرتون”، فعلى غير ما يبدو للوهلة الأولى من أن التحديث عاد على البلاد بالقوة والرفاه والاستقلالية، نجد أن التحديث الذي أسس له محمد علي عاد بمزيد من الضعف السياسي والتبعية للغرب، ولم تكن القوانين في مصلحة الشعب بل في مصلحة تقوية السلطة ونفوذ الأجانب، فزاد بطش السلطة وتغولها، وتقوض الأمان الاجتماعي إذ صارت السلطة مصدر رعب بانتهاجها أسلوب خطف الشباب والرجال للتجنيد، وفرضها حظراً للتجوال ليلاً لمحاصرة أي ردود فعل شعبية، كما لم توفر مؤسسة الشرطة الحديثة أمناً من اللصوص، بل كان الخوف والتحرز منهم قائماً، كذلك فقد أهملت أوضاع المساجد باستيلاء الدولة على أوقافها، وكُسِرت القبائل والزعامات الأهلية، ولم تتحقق العدالة بنظام التقاضي الجديد بل صار يعاني من البطء الشديد، ولم توفر الإدارة الحديثة تسهيلات في الخدمات العامة، بل غلب الكسل على الموظفين وتلقي الرشى لضعف –أو انعدام- جهة الرقابة، وتعقدت أمور أخرى كإجراءات السفر والحصول على تذكرة.. إلى غير هذا من المظاهر السلبية التي ترصدها بوضوح رحلة “بيرتون”(9).
في المقال القادم إن شاء الله، ننظر ونقارن بين أوضاع مصر: أهلها ومساجدها والأجانب فيها وأسواقها وتعامل الشرطة مع الناس وغيرها.
الهوامش:
(1) جوزيف بتس (الحاج يوسف)، رحلة جوزيف بتس إلى مصر ومكة والمدينة المنورة، ترجمة ودراسة: د. عبدالرحمن عبدالله الشيخ، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1995م)، ص29، وما بعدها، 40، 41.
(2) ريتشارد ف. بيرتون، رحلة بيرتون إلى مصر والحجاز، ترجمة وتعليق: د. عبد الرحمن عبدالله الشيخ، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1994م)، ص79، 123، 127، 128، 132.
(3) رحلة بيرتون، ص46 وما بعدها، 92، 93.
(4) رحلة بيرتون، ص23.
(5) رحلة بيرتون، ص107.
(6) رحلة بيرتون، ص98، 99.
(7) رحلة بيرتون، ص21، 22، 25 وما بعدها، 46، 52، 57 وما بعدها، 61، 63 وما بعدها، 67 وما بعدها، 71، 97، 109.
(8) رحلة بتس، ص27 وما بعدها، 40.
(9) رحلة بيرتون، ص30، وما بعدها، 34 وما بعدها، 125.