نحتاج حركة للوعي الإسلامي تعيد ثقتنا -نحن الشعوب الإسلامية- في أنفسنا، في مقابل الحرب النفسية التي تستهدف تحقير تاريخنا وحضارتنا وعقيدتنا وعاداتنا ولغتنا.
فعلي سبيل المثال لو وقفنا عند الحضارة والتاريخ، فسنجد أمم الأرض جميعا يحوي تاريخها صفحات حمراء بلون دماء الحروب والنزاعات، وصفحات سوداء بلون القهر والظلم، وصفحات بيضاء بلون الإنجازات الحضارية الإنسانية.
ولسنا كأمة إسلامية استثناءً عن تلك القاعدة.
حركة الوعي الإسلامي تحتاج الانطلاق من هذه النظرة الشاملة التي تعترف بالصفحات الحمراء والسوداء في تاريخنا، وتلقي الضوء على الصفحات البيضاء.
ومن أنصع صفحاتنا بياضاً، والتي لا تقبل التزييف أو التأويل أو الاختلاف حول مضمونها؛ هي آثارنا الحضارية القائمة.
جولة واحدة في شارع “المعز لدين الله الفاطمي” بالقاهرة، تحكي بشواهد ناطقة منجزات الحضارة الإسلامية.. فماذا ترى فيها؟
في طريقك من باب النصر (الفتوح) إلي باب زويلة، تمر على تلك الآثار:
مسجد الحاكم بأمر الله، سبيل وكُتَّاب الأمير عبد الرحمن كَتْخُدا، مسجد ومدرسة وخانقاة السلطان برقوق، مجموعة السلطان قلاوون، حمام إينال…
ماذا تعني هذه الأسماء: سبيل.. حمام.. تِكِية.. مسجد ومدرسة.. مجموعة…
السبيل: هو منشأة خيرية الغرض منها تقديم الماء العذب لعابر السبيل وسائر الناس بالمجان، ولم يكتفِ المسلمون بوظيفة السبيل الخيرية بل صنعوا منها أيقونة جمالية؛ لتظل أثراً ناطقاً عن عقيدة تدفع أصحابها لفعل الخير وحب الجمال والإتقان.
الحمام: هي حمامات عامة للاستحمام والنظافة؛ معلم حضاري إسلامي معبر عن عقيدة تدعو للنظافة والطهارة والمحافظة على الصحة.
التِكِّيَّة: منشأة خيرية توفر الطعام والمبيت بالمجان لعابري السبيل أو المنقطعين للعبادة.
مسجد ومدرسة: نموذج اندماج المسجد والمدرسة في منشأة واحدة، وهو نموذج معماري فريد سماه “علي عزت بيجوفيتش” نموذج “مسجدرسة”؛ حيث يحوي أيضاً في العادة سكنا للطلاب و”خلاوي” وهي غرف معزولة للتعبد والخلوة، وهو تعبير عن عقيدة لم تعادِ العلم، بل تربط العبادة والعلم في رباط وثيق، وترتفع بمكانة العلم إلى مقام العبادة.
مجموعة: هي مجموعة من المباني ذات الأغراض المتعددة تشملها منشأة واحدة.
مجموعة قلاوون على سبيل المثال تحتوي على:
مسجد ومدرسة وخلاوي وقبة تحتها ضريح وسبيل للناس وآخر للدواب ووكالة تجارية وبيمارستان (مستشفى).
هذا الجمع بين المسجد والمدرسة والسبيل والمشفى والوكالة التجارية؛ هو في ذاته أحد التجليات المُعَبِرة عن عقيدة لا تنفصل فيها العبادة عن أعمال الخير عن حركة الحياة.
هذه المعالم نفسها سالفة الذِكر تجدها في دمشق؛ فبجوار المسجد الأموي تجد حمام نور الدين والبيمارستان النوري والمدرسة العادلية وخان أسعد باشا.. ومثلها ستجده في تونس العتيقة، وحي القصبة بالجزائر العاصمة، وفي إسطنبول، ودول البلقان، وآسيا الوسطي، والأندلس.. وأينما وصل الإسلام.
وليت المقال يتسع لأسبح مع محبي الجمال في أسرار الجمال والجلال في تلك المنشآت، وليته يتسع للحديث عن أنواع الوقف لأعمال الخير التي عمت بخيرها الناس والخدم والحيوانات.. وليته يتسع للحديث عن بيمارستان قلاوون والبيمارستان النوري ومستوي السبق والتقدم العلمي في ديار المسلمين.
هذه هي حضارتنا بآثارها الناطقة الشاهدة علي عظمة هذه الأمة وخيريتها وسبقها.
ويبقي سؤال مطروح للتحدي:
هل يوجَد مثيل لتلك المعالم الحضارية الناطقة بمعانيها في لندن وبرلين وروما وباريس؟