– معظم الحجيج يؤدون المناسك بشكل فردي منعزل عن الأهداف التي من أجلها شُرعت تلك الفريضة
– تحقيق معاني فريضة الحج يتطلب وعياً عميقاً بمقاصدها وغاياتها
– «هوفمان»: الحج مؤتمر غير رسمي يلتقي فيه المفكرون والمثقفون والسياسيون في جامعة جوالة
– الحج لا يربط المسلمين بقضايا أمتهم فحسب بل يربطهم بالامتداد التاريخي للأمة
– يمكن أن تتضمن خطبة عرفة الخلاصات التي انتهت إليها وفود الحجيج بحيث تتماس مع قضايا العالم الإسلامي
ثمة مؤشرات نستطيع من خلالها أن نتبين عمق الأزمة التي ألمَّت بالعقل المسلم، وحجبته عن القيام بما يجب عليه؛ من فَهْم الإسلام أولاً على نحو صحيح فاعل، ومن التحرك به ثانياً في الأرض وبين الناس؛ سعياً للإصلاح، وبَذْراً للخير، وعمارة للكون.
ومن هذه المؤشرات انحسار مفهوم العبادات إلى شكل فردي، بحيث لا يكون ثمة فرقٌ بين أن يؤديها المسلم في انفراد أو في اجتماع! فمثلاً الصلاة في المساجد صارت تؤدَّى بشكل فردي لا يحقق الغايات التي من أجلها بُنيت المساجد، وفُضّلت صلاة الجماعة على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، كما في الحديث الصحيح.
فلا تعارف بعد الصلاة، ولا شعور بالوحدة والاجتماع، ولا مناقشة لقضايا المسلمين، كلُّ ما هنالك ركعات يؤديها المرء ثم ينصرف كما لو كان يصلي منفرداً في بيته!
والأمر نفسه ينطبق على سلوك المسلمين في فريضة الحج، فبالرغم من أنها عبادة تتجلى فيها بقوة وحدة المسلمين، وتظهر فيها بوضوح كل معاني الاجتماع والجماعة التي يهدف الإسلام إليها.. بالرغم من هذا، فإننا نرى معظم الحجيج يؤدون الفريضة بشكل فردي منعزل عن تلك الأهداف الكبرى التي من أجلها شُرع الحج.
وفد ممثل للأمة
لقد جعل الله سبحانه الحج فريضة تجتمع فيها الأمة من كل حدب وصوب، ومن جميع أطراف الكرة الأرضية؛ بحيث يكون وفد الحجيج ممثلاً للملايين التي تنتشر من خلفه في كل الأصقاع، ومجتمعاً مصغَّراً لذلك الامتداد الإسلامي الواسع في الجهات الأربع.
والأمر هكذا، فقد كان حرياً بهذا الوفد من الحجيج أن يعتبر نفسه أمة لا مجموع أفراد، فينوب عن الأمة في تجسيد معاني الوحدة والأخوة، وفي مد الجسور بين القادمين من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وفي مناقشة القضايا التي تلح على الأمة وتشكل تحدياً لها.
ولا شك أن تحقيق هذه المعاني يتطلب وعياً عميقاً بمقاصد فريضة الحج وغاياتها، وبأنها عبادة لا ينبغي أن تؤدَّى في إطار فردي، فهي ليست مثل عبادة الصلاة التي تؤدى في نطاق الحي الصغير، ولا مثل صلاة العيدين التي تؤدى على نطاق أوسع من الصلوات الخمس، بل هي عبادة تؤدى في وقت واحد من جميع المسلمين على تباعد ديارهم؛ ولذا ينبغي أن تتماس مع هموم المسلمين من كل قُطر، وأن يتجاوز أداؤها الإطار الفردي إلى الإطار الجماعي، بل وفي أوسع صور هذا الإطار، أي إطار الأمة كلها.
وقد التفت إلى هذا المعنى المهم من معاني فريضة الحج المفكرون والدعاة، وأكدوا أهمية وضعه موضع التطبيق، فيقول الأستاذ العقاد: “الحج فريضة للأمة، وفي مصلحة الأمة، وعلى شريعة المساواة بين أبناء الأمة؛ وهي بهذه المثابة فريضة اجتماعية تعلن فيها الأمم الإسلامية وحدتها، والمساواة بين الكبير والصغير أمام الله وعند بيت الله”(1).
ويؤكد الشيخ محمد الغزالي أن “الحج ليس رحلة ميتة؛ إن ناساً يذهبون إلى الحج الآن ثم يعودون مكْتفِين بأن حملوا لقباً! هل درست قضاياهم؟ لا، هل عادوا من موسم الحج بتحالف على محاربة الفساد الداخلي والغزو الخارجي؟ لا، إن الحج ليس عبادة فردية، لا في ديننا ولا في تاريخنا؛ فيجب أن نعلم ديننا، وكفانا جهلاً، حتى لا نستيقظ على الويل والثبور، وعظائم الأمور”(2).
ومن قبل، كتب الأديب أحمد حسن الزيات: “الحج مؤتمر الإسلام العام، يجدد فيه حبله، ويتعهد به بأهله، ويؤلف بين القلوب في ذات الله، ويؤاخي بين الشعوب في أصل الحق، ويستعرض علائق الناس كل عام فيوشجها بالإحسان، ويوثقها بالتضامن، وينضح من منابعه الأولى على الآمال الذاوية فتنضُر، وعلى العزائم الخابية فتذكو، ثم يجمع الشكاوى المختلفة من شفاه المنكوبين بالسياسة المادية، والمدنية الآلية، والمطامع الغربية، فيؤلف منها دعاءً واحداً تجأر به النفوس المظلومة جؤاراً تردده الصحراء والسماء!”(3).
كما أن المفكرين الغربيين الذين دخلوا الإسلام استرعاهم هذا المعنى المهم في مشهد الحج؛ فسجَّل “محمد أسد”، في كتابه الماتع “الطريق إلى الإسلام”، دلالات تلك الفريضة الجامعة، وما توحي بها شعائرها من معان وقيم تتصل بوحدة المسلمين واجتماع كلمتهم.
أما السفير الألماني المسلم “مراد هوفمان”، فالحج برأيه: “مؤتمر غير رسمي يلتقي فيه المفكرون والمثقفون والسياسيون في جامعة جوالة”(4).
الامتداد التاريخي للأمة
بجانب ذلك، ففريضة الحج لا تربط المسلمين بقضايا أمتهم فحسب، أي في الزمن المعاصر، بل تربطهم أيضاً بالامتداد التاريخي للأمة، وتصلهم بماضيهم الضارب في أعماق التاريخ، وذلك من خلال الشعائر والمناسك التي تذكّر بأبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام وبأسرته المباركة، في مواقفهم المليئة بالتوكل على الله تعالى، والثقة فيه، واليقين بوعده، والتضحية في سبيل إنفاذ أمره، ومن خلال زيارة الأماكن الدالة على جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام الأطهار.
يقول الأستاذ الزيات: إن في كل بقعة من بقاع الحجاز أثراً للتضحية ورمزاً للبطولة؛ فالحج إليها إيحاء بالعزة، وحَفْزٌ إلى السمو، وحثٌّ على التحرر: هنا غار حراء مهبط الوحي، وهنا دار الأرقم رمز التضحية، وهنا جبل ثور منشأ المجد، وهذا هو البيت الذي احتبى بفنائه أبو بكر، وعمر، وعلي، وعمرو، وسعد، وخالد، وهذا الشعب وذاك مَجرُّ أذيال الغطاريف من بني هاشم، وبني أمية، وتلك هي البطحاء التي درج على رمالها قواد العالم وهداة الخليقة، وإن مقام إبراهيم الذي انبثق منه النور، ونزل فيه الفرقان، وانتظم عليه الشمل، ما زال مناراً للأمة، ومثاراً للهمة، ومشرق الأمل الباسم بالعصر الجديد”(5).
ولحكمة ما، خُتمت سورة الحج بالتذكير بهذا الامتداد التاريخي للأمة، وانتسابهم إلى خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، بجانب التذكير بالمعاني الأساسية التي يقوم عليها بناء الإسلام؛ فقال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ {78}) (الحج).
مشاركات أوسع
ولعلنا في هذا الصدد نشيد بما اعتادته رابطة العالم الإسلامي من عقد مؤتمر سنوي بمكة المكرمة في موسم الحج، بمشاركة علماء ودعاة ومفكرين من أقطار شتى، والمطلوب أن تعمم مثل هذه التجمعات واللقاءات لتشمل وفود الحجيج، ولتكون سلوكاً عاماً بمشاركات أوسع، كما ينبغي أن تعمم نتائجها وخلاصاتها، وأن توضع موضع الاهتمام والتنفيذ، ويمكن أن تتضمن خطبة يوم عرفة أهم هذه الخلاصات التي انتهت إليها وفود الحجيج، بحيث تتماس الخطبة مع قضايا العالم الإسلامي ومشكلاته وتطلعاته، على نحو أعمق وأشمل.
إن فريضة الحج ينبغي أن تكون رسالة ليس للمسلمين وحدهم، بل للعالم أجمع، بأن هذه الأمة أمة واحدة، ذات رسالة واحدة، يجمعها همٌّ واحد وترتبط بغايات واحدة؛ تماماً كما أنها تعبد رباً واحداً، وتدين بدين واحد، وتجتمع في مكان واحد من كل عام لتؤدي هذه الفريضة الجامعة؛ (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ {92}) (الأنبياء).
بمثل هذا يصبح الحج عملاً متصلاً بروح الأمة وهمومها وقضاياها، وليس عبادة يؤديها مجموعة أفراد في مكان واحد دون رابط ولا ناظم، إن عبادة الحج أجلَّ وأعظم من هذا الشكل الفردي الضيق؛ لأنها عبادة للأمة كلها، أو هكذا ينبغي أن تكون.
الهوامش
(1) «الإسلام والحضارة الإنسانية»، العقاد، ص 104، مؤسسة هنداوي، 2013م.
(2) «خطب الشيخ محمد الغزالي في شئون الدين والحياة»، المجلد الثاني، ص 23، دار الاعتصام.
(3) مقال «لبيك اللهم لبيك»، الزيات، مجلة «الرسالة»، العدد 81، 21 يناير 1935م. نقلاً عن موقع:
https://ar.wikisource.org.
(4) “الرحلة إلى الإسلام: يوميات دبلوماسي ألماني”، هوفمان، ص 252، ترجمة: د. محمد سعيد دباس، العبيكان، ط2، 2006م.
(5) مقال “لبيك اللهم لبيك”، مصدر سابق.