خمس سنوات مرت على أبشع جريمة شهدها التاريخ، بل وشهدها العالم كله لحظة بلحظة، فلم تنقل مذبحة مثل مذبحة رابعة بثاً مباشراً ليشاهدها كل إنسان على هذه الأرض.
وإن كان رب الكون سبحانه وصف لنا –بعد آلاف السنين- مشهد أصحاب الأخدود وكيف خط الظالم وأعوانه أخاديد في الأرض وأشعلها عليهم ناراً، فرب الكون سخر للبشر من الإمكانات التي جعلهم يشاهدون مذابح ناس من البشر على الهواء لا لشيء إلا أنهم قالوا ربنا الله.
في مثل هذا اليوم كان الكل في رابعة العدوية والنهضة يسارعون لصلاة الفجر، وقفوا صفوفاً بين يدي ربهم، متمسكين بما أفاض عليهم من حب دينهم، أرادوا أن يسمع الآخر وجهة نظرهم، فكانوا كصوت غلام الأخدود الذي لم يسمع له ملك البلاد، فلم يحكم وقتها لغة العقل بعد أن أراه من الآيات الكثيرة، فقد مات جنده من فوق الجبل، ثم مات جنده غرقاً وعاد الغلام، إلا أن الاستكبار في الأرض ملأ كيانه وتملك شعوره، حتى ظن أن الحيلة التي أسداها له الغلام ستريحه وقومه، وما كان يظن أنها ستحول مسار التاريخ.
وهكذا من قاموا بمذبحة رابعة والنهضة ظنوا أن الأمر سينتهي سريعاً، وأنهم سينهون هذا الأمر في دقائق معدودة، وأن الدنيا بعده تستقر لهم، لكن فوجئوا بأن ووجهوا من شباب مؤمن بدينه، رفع في وجههم المصاحف والتكبير، فما كان منهم إلا أن كان رد فعلهم الرصاص في صدور هؤلاء الشباب.
إن القرآن سطر سطور المذبحة مع أهل الأخدود، والكون شاهد سطور مذبحة رابعة مع الركع السجود، وظن الجاني أنه بعيد المنال، فلن يدركه أحد، ولن يتعرف عليه أحد.
لكننا نلمح في الآيات ملمحاً تربوياً وعملياً وهو التركيز على صورة الجاني لا المجني عليه، حتى يتم فضحه فلا يتوارى عن العين، ولا تنسيه السنين.
بل أكثر من ذلك جوهر القضية “وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد”.. فخلف ما ساقه الجلادون عن رابعة، من أن بها سلاحاً، وأن شبابها يقتلون الناس، وبها زواج نكاح، تمهيداً لعملية الإبادة.. يبقي جوهر الصراع وهو الحرب على الدين ووأد أي تجربة إسلامية، فتصريحاتهم عن ذلك كثيرة سواء داخلياً أو إقليمياً أو دولياً.
أقسم الله بعزه الذي لا يضام أن ينتقم لكل نفس ظلمت، فقال تعالى في حديثه القدسي: “وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ” (حديث موقوف)، فلا يظن الجاني أنه في مأمن حتى ولو طال به العمر، فلو نسي الناس وتناسوا فرب الكون لا ينسى، فهو يمهل ولا يهمل، ولكن كل أموره بقدر.
لا يظن أحد أن هذه القضية ينصرها أو يهتم بها غير من ذاق مرارتها، وتفاعل بقلبه وروحه مع آيات سورة “البروج” وقصة الغلام الذي تمسك بدينه وأحب ربه وعلت روحه وهفت نفسه فوجد الموت شيئاً صغيراً، فأعلى شأن دينه وقدم روحه فداءً لنصرة ونشر هذا الدين.
وسار على نسقه كل من وحد ربه، ونطق بالشهادة من عميق نفسه، فتبارى الجميع في عدم الخوف من النار المؤججة، والأخاديد المستعرة، حتى نطق بها الطفل الرضيع: “يا أماه، اصبري فإنك على الحق”.
وهكذا كانت النفوس والأرواح في رابعة والنهضة كل منها تدرك أنها على الحق، فهم ركعاً سجداً، يحملون القرآن في قلوبهم وأيديهم، قلوبهم محسنة، ونفوسهم محبة لوطنهم ودينهم، وما أرادوا لحظة لوطن ولا لدينهم ذلاً ولا هواناً، فارتقت أرواحهم إلى ربهم وهم على هذه الحالة يلعنون من قتلهم ومن عاونه، وحرض عليهم، دون ذنب إلا أنهم تمسكوا بشريعة ربهم، وفي يوم أرادوا الحرية والكرامة لوطنهم، والرفعة لدينهم.