كثير من الناس يولدون ويموتون ولا يسمع عنهم أحد، وكل منهم من يصنع لنفسه بين الناس ذكر ومقام، سواء بعمله أو بشيمة أخلاقه.
والأستاذ سيد قطب الذي استشهد من أجل أفكاره الإسلامية في مثل هذا اليوم 29 أغسطس 1966م، بعدما نطق بمقولته التي ظلت تتناقلها الأجيال: “إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها، دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة”.
وعلى الرغم من الجدل الذي تركه الشهيد سيد قطب على الساحة الإسلامية خاصة لأطروحاته الفكرية وسمو كلماته في التعبير عما يؤمن به، فإن الجميع يشهد بثباته وإيمانه بدينه، التي جعلته لا يعبأ بموته في سبيلها أو الرضا عن الظالم حتى ولو بكتابة كلمات بسيطة؛ “إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة ليرفض أن يكتب حرفاً واحداً يقر به حكم طاغية”.
بداية النشأة
سيد قطب إبراهيم الذي ولد في أحضان عائلة موسرة نسبياً في قرية “موشا” الواقعة في محافظة أسيوط سنة 1906م، حيث كان والده رجلاً متديناً مرموقاً بين سكان القرية وعضواً في لجنة الحزب الوطني الذي كان يرأسه مصطفى كامل، يهتم بزراعة أراضيه ويعطف على الفقراء ويبر بهم؛ مما اضطره على ما يبدو إلى أن يبيع قسماً كبيراً من أطيانه، أما أمه فكانت سيدة متدينة تنتسب إلى عائلة معروفة وقد عنيت بتربيته فحنت عليه وزرعت في نفسه الطموح وحب المعرفة.
كانت له أختان وأخ أصغر منه سناً هم حميدة وأمينة ومحمد، فقد والده وهو لم يزل يتابع دراسته بالقاهرة فأحس بثقل المسؤولية التي ورثها إزاء أمه وإخوته، وكرهت نفسه الإقامة في مسقط رأسه فأقنع أمه بالانتقال إلى القاهرة وكان لموت أمه المفاجئ عام 1940 أثر كبير في نفسه إلى درجة أنه أحس نفسه وحيداً في الحياة غريباً عنها.
التحق بمدرسة المعلمين الأولية عبدالعزيز بالقاهرة ونال شهادتها، والتحق بدار العلوم وتخرج عام 1352هـ/ 1933م، عمل بوزارة المعارف بوظائف تربوية وإدارية، وابتعثته الوزارة إلى أمريكا لمدة عامين حيث سافر في 3 نوفمبر 1948م وعاد عام 1370هـ/ 1950م، وكان قد انضم إلى حزب الوفد المصري لسنوات وتركه على أثر خلاف في عام 1361هـ/ 1942م.
بعدما عاد من بعثته حدث له تحول جذري حيث انضم إلى جماعة الإخوان المسلمين عام 1370هـ/ 1950م، لكنه سرعان ما غاب خلف القضبان لا لشيء إلا أنه عارض فكر عبدالناصر وتبعيته.
ظل في السجن ما يقرب من عشر سنوات أنهكه فيها المرض إلا أنه استطاع أن يصوغ مدرسته الفكرية في هذه الفترة، التي أصبحت لها فروع وجامعات في ربوع العالم تدرس خلاصة فكر العشر سنوات، قبل أن يلقى عليه القبض مرة أخرى بعد خروجه بشهور معدودة ليصدر القاضي العسكري حكمه الجاهز بإعدام سيد قطب ورفاقه التي كانت إرادة الله أقوى من أي استجداء بشري لإعطائه الفرصة للحياة، حيث اختاره الله شهيداً عزيزاً لتنشر مدرسته الفكرية وتتحقق مقولته: “إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها، دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة”.
رحلة حياة
كان قطب يمتلك موهبة أدبية وإصراراً قوياً على تنميتها بالبحث الدائم والتحصيل المستمر، حتى مكنته من التعبير عن ذاته ومبادئه، قائلاً: «إن السر العجيب في قوة التعبير وحيويته ليس في بريق الكلمات وموسيقى العبارات، وإنما هو كامن في قوة الإيمان بمدلول الكلمات وما وراء المدلول، وإن في ذلك التصميم الحاسم على تحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية المعنى المفهوم إلى واقع ملموس».
ولم يُفتن قطب بالحضارة الغربية، بل منحته فرصة ليقارن بينها وبين حضارة الفكر الإسلامي، واستطاع بكلمته الصادقة أن يؤثر في كثير من الناس الذين التفوا حوله رغم كل العقبات والأخطار التي أحاطت بهم.
ورغم حسه المرهف لم يحارب سيد قطب المجتمعات بما فيها المجتمع الأمريكي الذي عاش فيه فترة العامين، لكن وضع له توصيفاً أدبياً يدل على حاله حيث قال: “شعب يبلغ في عالم العلم والعمل قمة النمو والارتقاء بينما هو في عالم الشعور والسلوك بدائي لم يفارق مدارج البشرية الأولى بل أقل من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك”، وهو الشعور الديني والأخلاقي الذي لم يلمسه قطب في الشعب الأمريكي.
إن الأديب يذوب عشقاً في كلماته إلا أن قطب انشغل بالكلمات عن الحياة الشاعرية التي لم تتوج في يوم من الأيام بالزواج، وذلك لاستشعاره المسؤولية الواقعة عليه بعد وفاة أمه وأبيه نحو إخوته.
التحول الفكري
كانت البعثة لأمريكا بداية تحول فكري ومنهجي لدى سيد قطب، ففي 23 أغسطس 1952م عاد من الولايات المتحدة إلى مصر للعمل في مكتب وزير المعارف، وقامت الوزارة على نقله أكثر من مرة الأمر الذي لم يرق لسيد فقدم استقالته من الوزارة في تاريخ 18 أكتوبر 1952م.
في هذا الوقت عادت جماعة الإخوان للوجود بعد القرار العسكري بحلها، وكان الحياة ترزح تحت خط الفقر، وقتها قدمت جماعة الإخوان المسلمين حلولاً عملية، كما أنها وقفت ضد الفساد الملكي وشاركت في الثورة المصرية التي غيرت مجرى التاريخ، كما أنها استطاعت أن تستوعب العديد من المثقفين والعلماء، وكان تاريخها يؤهلها للقيادة فانجذب إليها الشهيد قطب، لما لمسه في الفكر العملي للمنهج الإسلامي الذي لم يره قطب في بقية الحركات والأحزاب، حتى إنه سطر فكره الإسلامي في بداية مشروعه الإسلامي في كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام بقوله: “الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يردون هذا الدين جديداً كما بدأ يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون”.
صاغ سيد قطب فكره الإسلامي بمنهجية بشرية قابلة للتعديل متمسكاً بما قاله الإمام الشافعي: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”، فلم يضع سيد قطب أطراً جامدة يسير عليها الناس كأنها قرآن منزل، لكنه خلاصة فكر بشري وفق رؤية إسلامية.
الأفكار الخطيرة
قد هال الأستاذ سيد قطب وقوف الجموع الهائلة من المسلمين واجمة إزاء تصفية الحركة الإسلامية جسدياً سنة 1954م، ومنذ اللحظات الأولى كان يدرك بأن الجموع ستقف أمام إعدامه من أجل لا إله إلا الله التي تمسك بها وقال للشيخ الذي جاء يلقنه الشهادة وقت الإعدام: “حتى أنت جئت تكمل المسرحية نحن يا أخي نعدم بسبب لا إله إلا الله”.
لقد عبر د. القرضاوي عن حالة جلادي سيد قطب بقوله: “الحقيقة أن سيد قطب وتنظيمه لم يحاكما من أجل “الأعمال الخطيرة” التي ارتكبها، ولكن حوكم كلاهما من أجل “الأفكار الخطيرة” التي اعتنقها أو دعا الناس إليها، ولو أنصفوا وامتلكوا الشجاعة لقالوا: إننا حاكمنا الرجل -بل حكمنا عليه بالإعدام- من أجل أفكاره لا من أجل أعماله”.
هكذا رحل سيد قطب وهكذا بقيت كلماته كشموع تنير للناس درب السائرين، وهكذا ظلت سيرته وثباته مشعلاً متقداً في قلوب المظلومين.