ربما قال قائل: إن الله وزع المواهب والحظوظ على الناس بقدر وحكمة، فكثيرا ما نجد عند إنسان الكفاية والخبرة، ولا نجد عنده الكثير من المال، أو لا نجد عنده مالا أصلا وبإزائه نجد آخر عنده المال الكثير، مع الخبرة القليلة، أو لا خبرة له. فلماذا لا يعطي صاحب المال ماله لصاحب الكفاية والخبرة، يعمل فيه ويستثمره، على أن يجزى مقابل ماله بفائدة محددة، وبذلك ينتفع ذو الكفاية بالمال، وينتفع الغني بالكفاية؟ وبخاصة أن هناك مشروعات كبيرة تحتاج إلى مساهمة أفراد كثيرين بأموالهم، وفي الناس كثيرون عندهم فضل أموال، وليس عندهم الفراغ أو القدرة على استثمارها. فلماذا لا تستغل هذه الأموال في تلك المشروعات الحيوية الكبيرة يديرها أناس من ذوي الدراية والخبرة؟
ونقول: إن شريعة الإسلام لم تمنع أن يتعاون رأس المال والخبرة أو المال والعمل -كما يقول الفقه الإسلامي- ولكنها أقامت هذا التعاون على أساس عادل ومنهج سديد، فإذا كان رب المال قد رضيها شركة بينه وبين صاحبه، فعليه أن يتحمل مسؤولية الشركة بكل نتائجها.
ولهذا تشترط الشريعة الإسلامية في مثل هذه المعاملة التي سماها الفقهاء (المضاربة) أو (القراض) أن يشترك كل من الطرفين المتعاقدين في الربح إذا ربحا، وفي الخسارة إذا خسرا، ونسبة الربح والخسارة تكون وفق اتفاقهما، فلهما أن يجعلا لأحدهما النصف أو الثلث أو الربع، أو أدنى من ذلك أو أكثر، وللآخر الباقي.
وإذا يكون التعاون بين رأس المال والعمل تعاون الشريكين والمتكافلين؛ لكل نصيبه من الغنم قل أو كثر. فإذا ربحا تقاسما الربح كما اشترطا، وإن خسرا كانت الخسارة من الربح، فإن استغرقت الربح وزادت أخذ من رأس المال بقدرها، ولا غرابة في أن يخسر رب المال جزءا من ماله كما خسر شريكه جهده وعرقه.
ذلك هو قانون الإسلام في هذه المعاملة. أما أن يفرض لصاحب المال ربح محدد مضمون لا يزيد ولا ينقص وإن تضاعف الربح أو تفاقمت الخسارة فهذا مجافاة للعدل الصريح وتحيز لرأس المال ضد الخبرة والعمل، ومعاندة لقوانين الحياة التي تعطي وتمنع، وتشجيع لحب الكسب المضمون دون عمل ولا مخاطرة، وذلك هو روح الربا الخبيث.
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في المزارعة على الأرض، أن يجعل في العقد لأحدهما غلة مساحة معينة من الأرض، أو مقدار محدد من الخارج، كقنطار أو قنطارين مثلا لما في ذلك من شبه بالمراباة والمقامرة. فقد لا تخرج الأرض غير المقدار المشروط أو لا تخرج شيئا فيكون لأحدهما الغنم كله، وعلى الآخر الغرم كله. وهذا ما لا ترضاه العدالة.
هذا الشرط المفسد للمزارعة بالنص الصريح، هو في رأيي أصل لإجماع الفقهاء على الاشتراط في (المضاربة) ألا يحدد نصيب لأحدهما يضمنه على كل حال، ربحت الصفقة أم خسرت. وتعليلهم فساد المضاربة هنا كتعليلهم فساد المزارعة هناك فهم يقولون هنا: إنه إذا شرط أحدهما دراهم معلومة احتمل ألا يربح غيرها فيحصل على جميع الربح، واحتمل ألا يربحها.. وقد يربح كثيرا فيستضر من شرطت له الدراهم. وهذا تعليل موافق لروح الإسلام الذي يبني كل معاملاته على العدالة المحكمة الواضحة.
اشتراك أصحاب رؤوس الأموال
وكما يجوز للمسلم أن يستغل ماله منفردا فيما شاء من عمل مباح، وكما جاز له أن يعطي ماله أو جزءا منه لمن شاء من أهل الدراية والدربة على سبيل (المضاربة) يجوز له أيضا أن يشترك هو وآخر أو آخرون من أرباب الأموال في عمل من الأعمال صناعي أو تجاري أو غير ذلك، فمن الأعمال والمشروعات ما يحتاج إلى أكثر من عقل أو أكثر من يد، وأكثر من رأس مال. والمرء قليل بنفسه كثير بغيره، والله تعالى يقول: “وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى” (المائدة:2) وكل عمل يجلب للفرد أو المجتمع خيرا، أو يدفع عنه شرا فهو بر وتقوى إذا توافرت له النية الصالحة.
فالإسلام لا يبيح مثل هذه الأعمال المشتركة فحسب، بل هو يباركها ويعد عليها بمعونة الله في الدنيا، ومثوبته في الآخرة، ما دامت في دائرة ما أحله الله، بعيدة عن الربا والغرر، والظلم والجشع والخيانة بكل صورها. وفي ذلك يقول رسول الإسلام: “يد الله على الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه رفعها عنهما”. ويد الله كناية عن التوفيق والمعونة والبركة.
ويروي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه أنه يقول: “أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما وجاء الشيطان”.
——-
من كتاب “الحلال والحرام في الإسلام” (بتصرف يسير في العنوان).