لم أرزق موهبة الشعر التي تجعل صاحبها أمير القول ومبدع الصياغة؛ يتفرد بين لداته، حيث الخيال سماء لا تحد، والحروف سلاسل العقيان، يتوهج كأنما هو قبس نار؛ فيخاله من يراه بأن جنيا تلبسه، أو أن فريد صوره ورائع تركيبه إنما يرفده به سكان وادي عبقر، فهذه لم أرزقها، ولست غير متذوق معجب بالفحول من لدن شعراء المعلقات حتى شعراء مدرسة الجن؛ أما النثر فلي فيه فسحة وظلا ترومه نفسي وتطاوعني مفرداتي؛ أكتب حيث يروق لي وأرسم صورا من عالمي، واخترت منه القصة القصيرة في سرد شبه زاد يومي؛ أحسب أنني كتبت ما يقارب كتابا؛
من عالم القرية حيث عاش أجدادي لهم حيواتهم التي امتدت وترامت عند ضفاف النيل؛ أستمع لحكايات جدتي الخضراء؛ أعمل خيالي، أضع شخوصا أقرب إلى الحقيقة؛ مستعينا بالرمز الذي يكسب العمل طوق نجاة، يلازمني السرد؛ ولدت كثير الكلام وعلى كبر أصبت كما المحروسة بداء الخرس؛ فصار القلم لأنني كنت أجيد الاستماع ، ناثرا سلواي في رهق الابتلاء واعتلاء الهمل سدة الإبداع.
أحسبني أحد صعاليك الأدب العربي، أجهد أن أدون وقائع أيامي؛ لا سطوة لدي ولا أنا ممن يماشون الطغام فيما ارتكسوا فيه من حمأة التردي ونزوة الانبطاح يبغون عرض الأدنى، تسمو بآي الذكر لغتي؛ تزدان بالبيان النبوي تراكيبي، عربي يرى في قومه الفخر وإن أنشبت الضواري أنيابها في قلب العروبة سخرية واستباحة.
درعمي يجوب البلاد بقلمه؛ ينزف ألما وينطوي هما وتذهب نفسه حسرات، فصوح من القوم ما كان عامرا، وجاء بالإفك عصبة تنادوا ألا يجدكم من ألقى بكم إلا في عالم الترة والضغائن؛ سعيت وهاهي السنوات قبض ريح، والصوت صدى والأيام حبلى؛ ما تني تلد كل آونة عجيبة تروح في إثرها داهية؛ يتوارى المجد بطرف خفي ويتعالن الوباء حتى غدت المعاهد ودور العلم فراغا تصكه الريح العقيم.
يسمح لي النثر أن أبوح غير مقيد ببحور الشعر ولا التزام قوافيه؛ يبدو أن التنازع بين فني العربية ذاهب إلى قطيعة معرفية؛ فلا قراء يتابعون ولا نقاد يمارسون دورهم، فغدت الساحة الثقافية تعاني داء الموات.