الكاتب: د. إبراهيم بن محمد الحقيل
أمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقص القصص على قومه، وأن يتلو عليهم أخبار من سبقوا؛ ليعتبروا ويتعظوا فيؤمنوا، وتكرر ذلك في القرآن، وما ذاك إلا لتأثير القصة في النفوس البشرية، قال الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْـحَقِّ} [المائدة: ٢٧]، وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: ١٧٥]، وقال تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: ١٧٦]، وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} [يونس: ٧١]، وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبْرَاهِيمَ} [الشعراء: ٦٩].
قال القرطبي رحمه الله تعالى: أمره عليه السلام أن يذكّرهم أقاصيص المتقدمين، ويخوفهم العذاب الأليم على كفرهم[1].
وقال ابن عاشور رحمه الله تعالى: وشأن القصص المفتتحة بقوله (واتل عليهم) أن يقصد منها وعظ المشركين بصاحب القصة بقرينة قوله تعالى {ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ} [الأعراف: ١٧٦]، ويحصل من ذلك تعليم[2].
وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى فبلغ القرآن للأمة، وفيه من قصص السابقين شيء كثير، كما قصَّ صلى الله عليه وسلم على أصحابه رضي الله عنهم قصصاً كثيرة مما علّمه الله تعالى ليست في القرآن، فكان في ذلك أبلغ عبرة، وأحسن موعظة، لمن انتفع بها. فيحسن بالخطيب أن يأتي بهذه القصص من السنة النبوية بين حين وآخر؛ لأخذ الدروس والعبر منها، ونفع المصلين وإطرابهم بها؛ فإن القصص النبوي من أجمل القصص وأحسنها، وأكثرها تأثيراً في سامعها.
وأئمة الحديث والأثر علموا ما للقصة من تأثير في النفس البشرية، فترجموا بها في كتبهم، وجعلوها عناوين أبوابها، ومن تراجم أمير المؤمنين في الحديث أبي عبد الله البخاري رحمه الله تعالى: (باب قصة يأجوج ومأجوج، باب قصة إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام، باب قصة إسلام أبي ذر رضي الله عنه، باب قصة خزاعة، باب قصة زمزم، باب قصة الحبش، باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان رضي الله عنه، باب قصة أبي طالب… إلخ)[3].
وللقصة تأثير كبير في نفس سامعها لأسباب عدة، أهمها:
- ولع الإنسان بالقصص وميله إليها، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قصة الخضر مع موسى عليهما السلام: وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ خَبَرِهِمَا[4].
- أن القصة أقوى في التأثير من التوجيه المباشر، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “النفس تأنس بالنظائر والأشباه الأنس التام، وتنفر من الغربة والوحدة وعدم النظير؛ ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمر لا يجحده أحد، ولا ينكره، وكلما ظهرت لها الأمثال ازداد المعنى ظهوراً ووضوحاً، فالأمثال شواهد المعنى المراد، ومزكية له”[5].
- أن القارئ يستوعب معانيها لأنه يعيش بكليته معها فتؤثر فيه.
- أنها أداة سهلة للفهم وتحظى بالقبول من العامة[6].
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: ما أحوج الناس إلى قاص صادق[7].
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم متفاعلاً مع قصص القرآن، متأثراً بها، وظهر انفعاله وتأثره بها في مواقف كثيرة، منها:
- تأثره بقصة عيسى عليه السلام، وما أحدثه النصارى فيه من القول ببنوّته لله تعالى، والقول بالتثليث، وغلوهم في المسيح وأمه، فظهر تأثره صلى الله عليه وسلم بتربية أصحابه على عدم الغلو فيه، فقال: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»[8].
- تأثره صلى الله عليه وسلم بأذية بني إسرائيل لموسى عليه السلام، فصبر على أذى قومه وقال: «رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ»[9].
- تأثره صلى الله عليه وسلم بما نزل من العذاب بالمعذبين، قالت عائشة رضي الله عنها: كَانَ إِذَا رَأَى غَيْمًا أَوْ رِيحًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ المَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الكَرَاهِيَةُ. فَقَالَ: “يَا عَائِشَةُ مَا يُؤْمِنِّي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ؟ عُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ، وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ العَذَابَ، فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا“[10].
ميزات القصص النبوي
فضل الوحي على سائر الكلام كفضل الله تعالى على خلقه، وما القصص النبوي إلا غيب كشفه الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، فأداه صلى الله عليه وسلم كما تحمله، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، {إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٤]؛ ولذا امتاز القصص النبوي بميزات كثيرة لم تجتمع في غيره من قصص المتقدمين والمتأخرين، ومن تلك الميزات:
– صدق أحداثها ووقوعها وواقعيتها، فهي وحي من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم، وليست من أفكار الخيال التي ينسجها القاص لقرائه ومستمعيه؛ فكانت منهاج عمل لضبط الحياة للراغبين في اقتفاء أثر مدارج السالكين للوصول إلى جنات النعيم[11]. وكما أنها قصص لا تجنح إلى الخيال الشارد الجموح، فإنها لا تميل للتعمق المفلسف الغامض، ولا للسطحية الفارغة الجوفاء المغطاة بقشرة خالية من بديع العبارة، وليست هي القصة التي وضع الغرب لها عشرات القواعد والشروط، لكن هي القصة التي تقوم على سلامة فطرة القاص، وتكفي كل الكفاية في تقرير الغرض، وتروع كل الروعة في تسلسل الأحداث ولباقة الحوار وتصوير الأشخاص[12]. إنها القصة الواقعية الصادقة في أحداثها فلا تهويل فيها ولا تهوين، بخلاف قصص بني إسرائيل المختلقة، وقصص القصاص الوضاعين؛ ففيها من الغرائب والأخبار المنكرة ما لا تقبله العقول السوية، ويكون أحياناً فيها تناقض كثير. نقل السيوطي عن ابن الجوزي قوله: معظم البلاء في وضع الحديث إنما يجري من القصاص؛ لأنهم يريدون أحاديث ترقق وتنفق، والصحاح تقل في هذا[13].
- العناية بموضوع القصة وأهدافها دون الاهتمام بأشخاصها أو تحديد زمانها، ولذا تأتي بأساليب، نحو: كان رجل ممن كانوا قبلكم، كان رجل من بني إسرائيل. ومثله أيضاً: حديث الثلاثة المبتلين الأبرص والأقرع والأعمى، وحديث الثلاثة الذين باتوا في الغار، وحديث غلام الأخدود. وفي هذا استيعاب للحياة كلها مع تخطي الزمان والمكان[14].
- انتقاء الأسلوب، فليس أسلوبها متكلفاً متقعراً ولا مبتذلاً رخيصاً، والملاحظ أن أئمة المساجد يقرؤونها على العوام فيفهمونها، ويتأثرون بها، وهي تطرب كبار الأدباء والبلغاء، فقد جمعت بين سهولة العبارة وسرعة الفهم مع جزالة الأسلوب، وبراعة التركيب، وترابط القصة. بل حتى القصص التي حكاها الصحابة مما وقع لهم فيها براعة قصصية تأخذ بالألباب، كحديث عائشة رضي الله عنها عن الإفك، وحديث كعب بن مالك في تخلفه عن غزوة تبوك.
- النزاهة والعفة، والتعريض في المواضع الخاصة دون التصريح، نحو: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته… وبهذا نعلم قذارة الرواية الغربية، ومقلدتها الليبرالية العربية؛ حين تمتلئ بالمشاهد الجنسية الفاضحة، وتصفها وصفاً دقيقاً لتهييج الغرائز، وسحب قارئها إلى الشهوة، وكأن هذه الإثارة الرخيصة مقصودة لستر ضعف البنية القصصية في تلك الروايات الساقطة.
- عدم الوقوف طويلاً عند مواقف الضعف والهبوط البشري، فتمر بها سريعاً؛ لأنها ليست الأصل في المؤمن المحب للخير والعفة، وليست الهدف من القصة، وحالات الضعف هي استثناءات في هؤلاء الضعفة من المؤمنين وعارض عرض لهم.
- الإسراع في القصة إلى لحظة الإفاقة والتركيز عليها والإشادة بها، لأنها اللحظة اللائقة بالمؤمن.
تقسيمها من جهة الطول والقصر:
من قصص السنة النبوية:
- طويل: كقصة الإفك[15]، وتوبة كعب بن مالك[16]، وقصة بدء الوحي[17]، وقصة إبراهيم وهاجر[18]، ونحوها.
- متوسط: كقصة الثلاثة المبتلين[19]، والثلاثة أصحاب الغار[20]، والبقرة التي تكلمت[21]، ونحوها.
- قصير: كقصة الرجل الذي أوصى بأن يحرق ويذر رماده[22]، وقصة الذي اشترى عقاراً فوجد في أرضه ذهباً[23]، وقصة عيسى عليه السلام مع السارق[24]، ونحوها.
والقصص الطويلة من المستحسن أن يستوعب بها الخطيب الخطبة الأولى كاملة، ويختصر في مقدمة الخطبة؛ حتى لا يطيل على الناس، وفي الخطبة الثانية يأتي على أهم ما في القصة مما يحتاج الناس إليه، وهذا يختلف باختلاف الزمان والمكان والحال؛ فمثلاً: لو خطب بحديث الإفك؛ لأن بعض أهل البدع وقع في عرض عائشة رضي الله عنها، فهو في الخطبة الثانية سيبيّن أن رمي عائشة رضي الله عنها كفر؛ لأنه تكذيب للقرآن الكريم، ومن كذب بالقرآن فقد كفر، أو يتناول حال المنافقين في القديم والحديث، أو يذكر فضل عائشة رضي الله عنها بتبرئة الله تعالى لها، وقد يتحدث عن كل ذلك باختصار.
وقد يسوق القصة لغرض بيان شدة القذف، وخطر الشائعة، وهنا سيكون تركيزه في الخطبة الثانية على الأضرار التي تسببت لبيت النبوة بسبب هذه الشائعة الخطيرة.
وقد يسوق القصة لأغراض تربوية، فيستخلص منها المواقف التربوية للنبي صلى الله عليه وسلم في هذه الحادثة، ولعائشة وأبويها، وبعض الصحابة المذكورين في القصة رضي الله عنهم.
وعلى الخطيب أن يحدد الغرض الذي ساق القصة من أجله، حتى يمكنه التركيز عليه وإبرازه في الخطبة الثانية. ومن الخطأ أن يظن أنه سيأتي على فوائد القصة كلها؛ لأن ذلك سيطول جداً ويشتت السامعين.
ولا مانع من أن يعيد ذكر القصة بعد زمن، وفي كل مرة يبرز في الخطبة الثانية جانباً مهماً مما يستفاد منه مما تمس الحاجة إليه، فتكون الخطبة الأولى مكرورة، والثانية مختلفة.
وإذا كان للقصة أكثر من رواية طويلة أورد في كل مرة رواية من رواياتها حتى يأتي على جميعها، كما هو فعل حذاق المحدثين كالبخاري رحمه الله تعالى.
وأما القصص المتوسطة في طولها ففيها سعة بإبراز فوائدها وعبرها ودروسها، وللخطباء في ذلك طريقان:
- أن يذكر فوائد القصة ودروسها أثناء سرد القصة، وهذا يحتاج إلى براعة في الصياغة وفي انتقاء الدروس والعبر؛ لئلا يشتت ذهن السامع فينسى القصة. وميزة هذه الطريقة أنها أكثر اختصاراً للخطبة، وتدل السامع على موضع الشاهد من القصة لكل فائدة استخلصها الخطيب. وهذه الطريقة تشبه شرح القصة أو الحديث وتفكيك عباراته، لكن على من ينزع إلى هذه الطريقة أن ينتبه إلى ألا يحول الخطبة إلى درس أو شرح، ويبقي على أسلوبها الخطابي.. وقليل من الخطباء من يبرع في ذلك.
- أن يسرد القصة أولاً، ثم يأتي على دروسها وفوائدها مذكراً بالشاهد منها في كل فائدة. وميزة هذه الطريقة أنها تعطي السامع القصة كاملة بلا تدخل من الخطيب، وهذا أجمع لقلبه، وأكثر تأثيراً فيه، وهي أسلم للخطيب الذي لا يتقن إدخال الفوائد والمسائل في داخل القصة دون أن يشوش على السامع أو يصيبه بالملل لانقطاع القصة. لكن هذه الطريقة فيها شيء من التكرار؛ لأن الخطيب يسوق القصة كاملة، ثم يعيدها أو جزءاً منها في الفوائد حين يذكر الشواهد على كل فائدة.
وأما النوع الثالث وهو القصص القصيرة، فهي على نوعين:
- أن يكون فيها من الفوائد ما يغطي الخطبة، فيفردها بخطبة.
- أن تكون قصيرة جداً وفوائدها ليست كثيرة، وهذه لا بد من أن يعضدها بمثيلاتها من القصص أو النصوص؛ لأنه لو اعتمدها كما هي فسيضطر لإطالة المقدمة والخاتمة ليغطي قصر الخطبة، أو يكثر من الكلام الإنشائي الذي لا فائدة منه، أو يعمد إلى التكرار واللت والعجن في الخطبة، وكل هذه مفسدات للخطبة، وتصيب السامع بالملل والامتعاض.
أقسام القصة من جهة من عرضت له
الأول: قصصه عليه السلام عن الأمم السابقة، خاصة قصص بني إسرائيل؛ لأنها الأكثر في حديثه صلى الله عليه وسلم، ومنها: قصة الخضر[25]، وقصة البغي أو الرجل الذي سقى الكلب[26]، وقصة جريج العابد[27]، وغيرها كثير في السنة النبوية.
ولعل سبب كثرة حكاية النبي صلى الله عليه وسلم قصص بني إسرائيل: قربهم من البعثة النبوية زماناً ومكاناً؛ فاليهود كانوا في المدينة، والنصارى كانوا في الجزيرة، ومن بعض القبائل العربية، وفي الشام، والنبي صلى الله عليه وسلم بُعث على حين فترة من الرسل، وبُعث قبله جملة من أنبياء بني إسرائيل؛ ولأن بني إسرائيل حفظوا بعض كتبهم مما يدل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم إذا حدث بقصص يعرفونها؛ ولما في حكايتها من تأليف بني إسرائيل على الإسلام؛ فإنه صلى الله عليه وسلم إذا حدث بقصص سابقيهم كان ذلك أدعى لقبولهم الإسلام، لولا الحسد الذي امتلأت به قلوب أحبارهم ورهبانهم فأضلوا بحسدهم العامة منهم.
الثاني: قصص وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي على نوعين:
- ما وقع قبل البعثة؛ كحادثة شق الصدر، وإرضاعه في بني سعد، وتحكيمه في بناء الكعبة، ونحوها. وفيها أحوال طفولته وصباه صلى الله عليه وسلم والكرامات التي يراها الناس منه، مع عفته وأمانته وأخلاقه الكريمة.
- قصصه بعد البعثة، وهي كثيرة جداً، سواء قصصه الخاصة به؛ كقصة فتور الوحي، وحادثة الإسراء والمعراج، أو قصصه مع آل بيته رضي الله عنهم؛ كقصصه مع نسائه رضي الله عنهن، ومنها حديث الإفك، وخبر إيلائه من نسائه، وأيضاً خبر تخييرهن بينه وبين الدنيا، أو مع أصحابه؛ كقصة هجرته، وقصته مع أبي بكر في الغار، وقصة جوعه يوم الخندق واستضافة جابر رضي الله عنه له، وقصصه مع المشركين واليهود والمنافقين، وهي كثيرة جداً.
الثالث: قصص وقعت في العصر النبوي للصحابة رضي الله عنهم؛ كقصة كعب بن مالك في تبوك، وقصة تميم الداري مع الدجال، ونحوهما.
الرابع: قصص المنام؛ كحديث: رأيت ربي…[28]، وحديث: هل رأى أحد منكم من رؤيا[29].
الخامس: القصص التمثيلية، ومنها (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها…)[30]، وحديث (إنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استأجر عمالاً…)[31]، وحديث: (مثل ما بعثني الله من الهدى…)[32].
السادس: قصص المستقبل، مثل: أخبار الدجال والدابة ويأجوج والملاحم وقصص يوم القيامة وآخر من يدخل الجنة.
وينبغي للخطيب في اختياره قصة من القصص النبوي لتكون موضوع خطبته، مراعاة ما يلي:
أولاً: التأكد من صحة القصة المختارة، وقد سبق أن أشبعت هذه القضية في مقالة (استدلال الخطيب بالسنة)، ومقالة (الخطبة بحديث من السنة)، فليرجع إليهما من أراد الاستزادة.
ثانياً: نقل القصة من المصدر الأصلي لها، وعدم الاعتماد على المصادر التي نقلت عن الأصل؛ لزيادة التوثيق، والسلامة من الخطأ والتحريف والتصحيف.
ثالثاً: جمع روايات القصة، سواء عن الصحابي نفسه أو عن غيره من الصحابة، فقد يكون فيها زيادات مهمة تزيد القصة وضوحاً وتشبعها معنى وأثراً.
ويجب على الخطيب كما استوثق من ثبوت أصل القصة، أن يستوثق من ثبوت الروايات الأخرى للقصة؛ لأنه ليست كل زيادة صحيحة، بل قد تكون شاذة أو ضعيفة أو منكرة، وقد تعارض القصة الأصل، ما يؤدي إلى التناقض والتشويش على الناس.
رابعاً: يختار من روايات القصة أصحها وأتمها، فإن وجدت عنده رواية اتفق الحُفَّاظ أو الشيخان عليها، وواحدة انفرد بها أحد الحفاظ دون غيره، أو خرجها أحد الشيخين؛ فليعتمد الرواية التي عليها أكثر الحفاظ أو المتفق عليها؛ لأنها أقوى وأبعد عن الغلط.
فإن كانت الرواية الأصح مختصرة، والأقل صحة أتم منها؛ فلا شك في أن اعتماد الرواية الأتم فيه فائدة أكثر، لكن بشرط أن تكون صحيحة ولا تخالف الرواية المختصرة فتكون شاذة. ولو جمع بينهما فجعل الرواية الأقوى هي الأصل ثم أعقبها بالرواية الأتم منها؛ لكان محققاً للغايتين؛ إذ يعلم الناس أن الرواية المختصرة هي الأقوى، والثانية هي الأتم.
وسياقه للرواية التامة للقصة يريحه أثناء إضافته الزيادات الصحيحة عليها من الروايات الأخرى؛ إذ في الغالب أن الزيادات تكون قليلة لتمام الرواية التي ساقها، وهذا يكون أشدَّ بناء للقصة، وأَنْظَمَ لسياقها، وأقل تشويشاً على السامع فينسجم مع القصة النبوية.
—-
الهوامش:
[1] تفسير القرطبي 8/362.
[2] التحرير والتنوير 9/173.
[3] ينظر: صحيح البخاري نسخة مصطفى البغا: 3/1220-1234-1294-1297-1298-1352-1408. وينظر أيضاً أبواب أخرى فيه: 4/1454-1535-1591-1592-1593-1596.
[4] أخرجه البخاري (4725).
[5] إعلام الموقعين: 1/183.
[6] ينظر: مختارات من القصص الصحيح في السنة النبوية, د. طلعت محمد عفيفي سالم، الزهراء للإعلام العربي – القاهرة، الأولى، 1408، ص: 20-26.
[7] إحياء علوم الدين، نشرة: دار المعرفة – بيروت، 1/35.
[8] أخرجه من حديث ابن عباس عن عمر رضي الله عنهم: البخاري (3445).
[9] أخرجه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: البخاري (3150).
[10] أخرجه البخاري (4829)، ومسلم واللفظ له (899).
[11] ينظر: موسوعة القصص النبوي، د. شاهر ذيب أبو شريح، دار صفاء – الأردن، الأولى، 2003، ص: 7.
[12] ينظر: الحديث النبوي الشريف من الوجهة البلاغية، د. كمال عز الدين، دار اقرأ – بيروت، الأولى، 1404، ص: 459.
[13] ينظر: أقباس من قصص السنة، د. عبد الحكم عبد اللطيف الصعيدي، مكتبة الدار العربية – القاهرة، الأولى، 1420، ص: 18.
[14] تحذير الخواص من أكاذيب القصاص، تحقيق: د. محمد الصباغ، نشرة المكتب الإسلامي – بيروت، 1394هـ، ص: 155.
[15] البخاري (4141)، ومسلم (2770).
[16] البخاري (4418)، ومسلم (2769).
[17] البخاري (4953)، ومسلم (160).
[18] البخاري (3364-3365).
[19] البخاري (3464)، ومسلم (2964).
[20] البخاري (2215)، ومسلم (3743).
[21] البخاري (3471)، ومسلم (2388).
[22] البخاري (3481)، ومسلم (1756).
[23] البخاري (3472)، ومسلم (1721).
[24] البخاري (3444)، ومسلم (2368).
[25] البخاري (74).
[26] البخاري (173-3467)، ومسلم (2244-2245).
[27] البخاري (1260)، ومسلم (2550).
[28] الدارمي (2195)، ومسلم (2550).
[29] البخاري (7047).
[30] البخاري (2493).
[31] البخاري (3459).
[32] البخاري (79)، ومسلم (2282).
——–
* المصدر: مجلة البيان العدد 320.