تهتمُّ الشعوب والأممُ في العصر الحالي بالتعليم اهتمامًا كبيرًا، ويتجلَّى هذا في ظهور عديد من النظريات التي تبحث في أفضل الوسائل والطرق، لإعداد جيلٍ ينتج المعرفة ويُصدرها على هيئة مخترعات، وتطبيقات تقنية وتكنولوجية تدفع عجلة التنمية في المجتمعات، وترفعها إلى مصاف الدول المتقدمة في شتى المجالات الصناعية والتجارية والاقتصادية.
ويستند التعليم في أركانه على الفلسفة التربوية التي يؤمن بها المجتمع، ويسعى إلى تربية أبنائه في ضوئها؛ حيث تنعكس الفلسفة التربوية للمجتمعات على الأهداف، المنهج، الطرق والأساليب، المعلم، المتعلم، التقويم، وتهدف كل الأركان السابقة لعملية التعليم إلى إكساب المتعلمين جوانب الخبرة المختلفة (معلومات – حقائق – مهارات – اتجاهات – قيم).
ويظهر ارتباط الخبرة بأركان العملية التربوية من خلال التعريف التالي[1]: “الخبرات التعليمية هي أشكال التفاعل بين المتعلم وعناصر البيئة التي يعيش فيها؛ حيث يستجيب المتعلم استجابة كلية شاملة لعناصر هذه البيئة، إنها تلك الخبرات التي تسعى المؤسسات التربوية إلى تخطيطها وتنفيذها وتقويمها، كما تمثل مجموعة العلاقات بين المربين والمتعلمين، وجملة التباين الذي يبرز نتيجة الفروق الفردية، وأنواع الاستعدادات، والطرائق التي يتم فيها عرضُ هذه الخبرات على المتعلمين، ويدخل ضمن هذه الخبرات مجموعةُ الفرص الاجتماعية التي عاشها هذا المتعلم”.
ومن خلال التعريف السابق يظهر دورُ المؤسسات التربوية في الخبرات التعليمية، فهي التي تخطط لها عن طريق وضع الأهداف التربوية والتعليمية، وتُصمم المناهج في ضوئها، كما تعمل على تنفيذها، ومِن ثَمَّ تقييم مدى تحقُّقها في الواقع، كما أن المعلم هو الذي يقوم بنقل الخبرة للمتعلمين؛ إما بطريق مباشر وهو التلقين والإلقاء، أو بطريق غير مباشر عندما يقوم بدور الموجه والمرشد للمتعلمين، وذلك عبر طرائق تدريس مختلفة تتناسب مع الخبرة المراد إكسابها للمتعلمين، وتناسب استعدادات وميول المتعلمين، ويظهر أثرُها في تعامُلهم مع بيئتهم.
والخبرات التعليمية نوعان[2]: الخبرات المباشرة، وغير المباشرة، والخبرات المباشرة، وهي تلك الخبرات القائمة على تفاعل التلميذ المباشر مع الشيء المراد إكسابه للتلميذ في العملية التعليمية، وأن الخبرات المباشرة تقوم على الإدراك الحسي؛ أي: تعتمد على حواس الشم والبصر والسمع… إلخ، كما أنها لا تقف عند حد المدرسة ذاتها، وإنما تشمل الحياة كلها سواءً داخل المدرسة أو خارجها، أما الخبرات غير المباشرة، فهي خبرات غير واقعية أو مطابقة للحقيقة، وليست الحقيقة ذاتها، وإنما هي صورة منقحة لها؛ مثل: ((الأفلام الثابتة والمتحركة، النماذج الدراسية…. إلخ)).
وللخبرة في العملية التعليمية أهميةٌ، فهي النتاج المتوقع من العملية التعليمية، ولذلك اهتمَّت كثيرٌ من الفلسفات التربوية بالخبرة، ووضَعت لها معاييرَ وشروطًا تضمن فعاليتها وتحقُّقها في نفوس المتعلمين، ومن أبرز هذه الشروط[3] أن تكون الخبرات متعددة، وتحقق مبدأ الاستمرارية والتنوع والشمول، وتكون موجهة لتحقيق أكثر من هدف تربوي.
وتشير الاتجاهات الحديثة في التربية إلى أهمية الخبرة المباشرة، وأنها أكثر أثرًا من غيرها، ومن أبرز الفلسفات التربوية التي تنادي بذلك الفلسفة البراجماتية؛ حيث إنه في سبيل ذلك قامت بالهجوم على الفلسفتين المثالية والواقعية؛ حيث اعتبر جون ديوي[4] أن كلًّا منهما فلسفة قديمة تقدم تربية تقليدية تعمَل على أساس روتيني، وتقدم برامج وانحدارات من الماضي، لا تسهم في تنمية الخبرة، ولا تمثِّل أيَّ مظهرٍ للخبرة، كذلك انتقد الفلسفة المثالية والواقعية؛ لأنهما يفصلان بين الخبرة العقلية والخبرة الجسدية، وأضاف: إن هذه الثنائية هي أسوأ شرور التربية التقليدية، ومن أقواله في هذا الشأن: (إن أصحاب هذا الفهم حين يعملون يمارسون ضغطًا على الجسم بعدم الحركة والنشاط، فيطلبون السكون وعدم الحركة، ويعاقبون الطالب إذا قام بأية حركة؛ لأنها حسب رأيهم مفسدة للخبرة العقلية، ويؤكد ديوي أن أوقيه من الخبرة خيرٌ من طن من التلقين النظري).
في المقابل نجد أن هناك من ينتقد الفلسفة البراجماتية في تعاملها مع الخبرة، ويجد أنها حين حصرت الحقيقة في الخبرة، فشِلت في تقديم شيء عن الحقيقة الكلية التي هي مدار اهتمام الإنسان في الماضي والحاضر، وأنها أعطت اهتمامًا أكثر مما يجب لقضايا التكيف وتشجيع الناشئة على الجري وراء رغباتهم، والنشاطات الاجتماعية، بينما أهملت الموضوعات الأكاديمية والعقلية.
وسيظل الجدل دائرًا بين الفلسفات طالما أنها فلسفات بشرية تنبع من العقل الإنساني القاصر، الذي يُغلِّب جانبًا دون جانبٍ على حسب مصالحه الشخصية، أو رغبات مجتمعه بنوعٍ من الإخلال في أحد هذه الجوانب، بينما لو نظرنا إلى الخبرة في النظرية التربوية الإسلامية التي تستمد مبادئها من مصادرها الإسلامية الثابتة (القرآن والسنة)، نجد أنها تسعى إلى إحداث التوازن والشمول في الخبرات المراد إكسابها للمتعلمين، ونجد أنها نظرية شاملة اهتمَّت بكافة جوانب العملية التعليمية، فهي اهتمَّت بالأهداف والمعلم والمتعلم، وطرق وأساليب التدريس، التي من خلالها يكتسب المتعلمون الخبرة التي تسعى إلى إعمار الكون بمقتضى المنهج الرباني.
وفي حين تركز الخبرات التعليمية في كافة الفلسفات على الخبرات المحسوسة، وتنكر الغيب، تنفرد نظرية التربية الإسلامية بأنها تعترف بالخبرات المحسوسة والغيبية؛ حيث تقدِّم لنا الخبرات اللفظية الغيبية في المعتقدات والقيم والكون والحياة، والتي تجيب على التساؤلات الوجودية الكبرى للإنسان، ونظرية التربية الإسلامية[5] تفعل الخبرة التربوية في جميع ميادين المعرفة العلمية، سواء أكانت معرفة دنيوية متعلقةً بعلوم الكون، وما يسمى بعلوم الوسائل، أم كانت معرفة شرعية تتعلق بعلوم الغايات أي العلوم الدينية.
والخبرة التربوية الناجحة هي التي يظهر أثرُها في سلوك المتعلم، وقد وظفت نظرية التربية الإسلامية السلوك والممارسة في تثبيت معاني القيم الإسلامية في النفوس، ومن ذلك التربية بالقدوة (الخبرات المشاهدة)، والتربية بالعبادات، وقد بيَّن القرآن الكريم والسنة النبوية الوظيفة التربوية للعبادات، ويظهر ذلك في مواضع عديدة؛ منها: قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]، فقد جعل القرآن إقامة الصلاة وأداءَها على وجهها منهجًا لتكوين الاتجاهات والقيم، ولامتثال الخلق الحسن، واجتناب كل ما فيه منكر أو فحش، وفي قوله تعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 197]، وفي هذه الآية يكون الحج مهذبًا لخلق المسلم وقِيَمه الروحية، بحيث ينأى به عن الرفث والفسوق ونحوها.
كما تظهر مستويات التعليم بالخبرة[6] في تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه العبادات، فظهر في تعليم العبادات التعليم بالأنموذج وبالملاحظة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلُّوا كما رأيتموني أُصلي)، ومن أمثلة تفعيل التعلم بالخبرة ما جاء من الأمر بالصلاة وإقامتها في أوقاتها المفروضة، وقد ظهر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد جاء الأمر بألفاظ مجردة في القرآن والسنة، ثم تفعل الخبرة في المستوى الثاني للمتعلم بالخبرات غير المباشرة بالمشاهدة للأنموذج، ثم الخبرة المباشرة بالمعايشة والممارسة، ومن الأحاديث التي تصف هذه المنهجية في التعليم، ما روى مسلم[7] في صحيحة عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلًا سأله عن وقت الصلاة، فقال له: (صلِّ معنا هذين)؛ يعني: اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالًا، فأذَّن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها، وصلَّى العصر والشمس مرتفعة، أخَّرها فوق الذي كان، وصلَّى المغرب قبل أن يَغيب الشفق، وصلَّى العشاء بعدما ذهب ثُلُث الليل، وصلَّى الفجر، فأسفر بها، ثم قال: (أين السائل عن وقت الصلاة؟)، فقال الرجل: أنا يا رسول الله، قال: (وقتُ صلاتكم بين ما رأيتم).
وهكذا نجد أن نظرية التربية الإسلامية جعلت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة العبادةَ عملًا وفكرًا، وربَطت بين قيمة العبادة ومدى تأثيرها في تكوين الأثر في شخصية العابد وسلوكه، وهذا من أبلغ الأمثلة على التربية بالخبرات المباشرة.
ومن خلال ما سبق يتَّضح أن مفهوم الخبرة في نظرية التربية الإسلامية، مفهومٌ شامل يتضمن الخبرات المحسوسة والغيبية، ويتضمن الخبرات المباشرة وغير المباشرة، ومرتكزات الخبرة في التربية الإسلامية، هي التصور الإسلامي للمعرفة والإنسان والحياة والكون، ويُعد معيار الخبرة الجيدة في نظرية التربية الإسلامية، هو الذي يحقِّق الهدف الغائي للتربية الإسلامية، وهو عبادة الله وحده، وعمارة الكون بالعلم والعمل الصالح.
——————————————————————————–
[1] جودت، سعادة؛ إبراهيم عبدالله، (2014م)،”المنهج المدرسي المعاصر”، دار الفكر، الأردن.
[2] عبدالوهاب، عبدالقادر، (2001م)، “أهمية الخبرة المربية المباشرة وتأثيرها في عمليتي التعلم والتعليم، مجلة التربية، مج 40، ع175.
[3] الرباط، بهيرة شفيق (2015م)، المناهج الدراسية رؤية استشرافية، دار الزهراء : الرياض، ص 153.
[4] انظر: – ديوي، جون، الخبرة والتربية، ترجمة محمد رفعت رمضان، 1967، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة. – ديوي، جون، الديمقراطية والتربية، ترجمة منى عفراوي وزكريا وميخائيل، 1947، طبعة القاهرة، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
[5] بني يونس، أسماء عبدالمطلب؛ الشريفين، عماد، (2014م)،”التربية بالخبرة وموقعها في التربية الإسلامية” دراسات – علوم الشريعة والقانون (الاردن)، مج 41، ص 836 – 853.
[6] بني يونس؛ الشريفين، مرجع سابق، ص 845.
[7] النووي، يحيي بن شرف أبو زكريا، (1416هـ)، “شرح النووي على مسلم” ، كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب أوقات الصلوات الخمس، رقم 613.
——
* المصدر: الألوكة.