أنا سيدة في نهاية الثلاثينيات من عمري، متزوجة والحمد لله من زوج فاضل، ونعيش حياة طيبة، ومنَّ الله علينا بثلاثة أبناء؛ أعمارهم بين العاشرة والسادسة عشرة، أنا والحمد لله ناجحة في عملي، وأشغل منصب مدير إدارة هندسية بإحدى الوزارات، لكن مشكلتي أن طبيعة عملي تتطلب بذل جهد في مراجعة تصميمات المقاولين، ومتابعة التقارير التي تأتي من المواقع، وعادة ما يتطلب الأمر إما الاستمرار في العمل بعد الدوام الرسمي أو استكمال العمل بالمنزل.
أنا أحب عملي جداً، وأجد نفسي فيه، ورغم إحساسي بالتقصير؛ فإن الجميع يشيد بتميزي ودقة أدائي، أما في حياتي الزوجية فللأسف مستوى أولادي الدراسي أقل من المتوسط، ورغم وجود مديرة للمنزل غير الخادمات لإدارة شؤونهم ومدرسين «خصوصيين»؛ فإنني أحاول أن أنتهز فرصة المتابعة المباشرة من جانبي؛ حيث إني أعود للمنزل حوالي الثالثة عصراً، ويكونون قد تناولوا غداءهم، ومنهم من يذهب للنادي ومنهم من يجلس مع المدرس، فأتناول غدائي بمفردي لأن زوجي له عمله الخاص ولا يعود قبل العاشرة مساء، فآخذ قسطاً من الراحة حتى المغرب، وفي العَشاء عادة ما يطلب كل منهم ما يريده من المطعم، وأكون مشغولة بالاستعداد لاستقبال والدهم، وأتأكد أن كلاً منهم قد استقر بغرفته، ورغم حرصي على أن نلتقي معاً في نهاية الأسبوع؛ حيث يحضر كل الأهل في بيت العائلة الكبير، ويقضي الأولاد وقتاً طيباً مع أقرانهم.
أستاذي، أذكّرك أنني حريصة على عملي، وأنا مرشحة لأن أكون وكيل وزارة، ولكن هذا عادة ما يتطلب مني عدم أخذ إجازتي السنوية حتى أتمكن من إنجاز العمل، ولكن أولادي في سن المراهقة، وألاحظ بعض التصرفات المريبة وغير المقبولة، ولكني لا أخبر والدهم حتى لا أعكّر صفْوَه في الأوقات القليلة التي نقضيها معاً، ولا أواجههم حتى لا ينفروا مني.
أحاول أن أبذل قصارى جهدي، وقد يبدو أمام الآخرين أن الأمور تسير بخير، لكنني أرى أن الأولاد ليسوا في المستوى المطلوب، وأدائي الحالي قد لا يمكنني أن أتولى الإدارة، فيتطلب الأمر بذل مزيد من الجهد في عملي.
فماذا أفعل؟ وجزاكم الله خيراً.
التحليل
لعل هذه المشكلة تبدو شخصية، ولكن للأسف هي ظاهرة عامة، ولكن -وهو الأخطر- قد لا يشعر بها أو يعاني منها إلا القليل، وبالتالي لا تمثل بالنسبة له أي مشكلة، أما ابنتنا فجزاها الله خيراً لم يقتصر الأمر على الشعور بالمعاناة بل بادرت بطلب الاستشارة؛ فلعل في ذلك خيراً لها، وسبب خير لغيرها إن شاء الله تعالى.
نرى أن سبب هذه المشكلة هو ضياع فقه الأولويات، فرغم أن على الأمة فرض كفاية أن توفر من النساء ما يكفي احتياجها من المهن التي تتطلبها خصوصية النساء، وأن قيام الرجال بهذه المهن قد يؤدي إلى حرج وفتنة مثل الطب على سبيل المثال وليس الحصر؛ ولكن كما هو معلوم من الدين بالضرورة فإن فرض العين مقدم على فرض الكفاية، بمعنى: هل أبنائي لهم أمٌّ غيري؟ إذاً لهم الأولوية المطلقة، إن أقدس وظيفة تقوم بها الزوجة هي الأمومة، بمسؤولياتها المعنوية قبل المادية، التي يمكنها توكيل غيرها بالقيام بها، ولكن تظل هي المسؤولة عن ذلك مثل التربية العلمية والدينية ومهارات الحياة، وهذا لا يمكن أن يتم إلا من الأمّ، أما مديرة المنزل والخدم والمدرسون والنادي والمطعم كل هؤلاء وغيرهم لا يمكن أن يقوموا بدور الأمومة نيابة عنها، ولكن يمكن للأم أن تستعين بخدماتهم الجليلة والمهمة، ولكن تحت إشرافها وطبقاً لرؤية ومنهجية تربوية هي التي تصوغها مع والدهم.
ويمكن إذا دعت الضرورة أن توظف الأم قدرات كل ما يمكن أن يساعدها على كفاءة تربية أولادها؛ ولكن من خلال قلب يملأ حياة الأبناء حباً، وعقل يشير عليهم وينمي قدراتهم وينير لهم الطريق، وحتى تستطيع الأم أن تمارس الأسلوب التربوي المناسب لكل ابن في كل مرحلة عمرية، الذي دائماً ما يتغاير من ابن لآخر بل من مرحلة لأخرى لنفس الابن، فعليها أن تبني علاقة من التدفق الوجداني حتى يشعر الأبناء بالأمان والاستقرار النفسي، بالإضافة إلى بناء علاقة قوامها الثقة مع الأبناء، وذلك يتطلب الثقة بذواتهم وثقتهم بها، ولا يمكن أن يقوم بهذا الدور غيرها على الإطلاق.
إن ابنتنا تتطلع أن تكون وكيل وزارة، ولا حرج في هذا، بل وأن تكون وزيرة، ولكن بالطبع لن يتم ترقيتها إلا بعد مراجعة ملفها والتأكد من حصولها على المؤهلات العلمية والمهنية والسمات الشخصية، وأنه يتوافر لديها الخبرات المناسبة من المعارف والمهارات والقدرات التي تؤهلها لهذا لمنصب الرفيع، وأنها كفؤ لتولي أمانة المنصب، أليس كذلك؟
ولكن دعونا نتساءل: عندما أصبحت زوجة ثم أمّاً، كيف تأهلت لهذه الوظيفة وهي الأقدس على الإطلاق؟ فالأمومة منظومة متكاملة من العلوم والفنون لصناعة المستقبل، ومن الناحية الشرعية والتربوية فإنه فرض على الوالدين وليست فضلاً، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ {6}) (التحريم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته..» (رواه البخاري)، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ومن ثم فعلوم وفنون التربية فرض عين على كل أمّ وأب حتى يستطيعا أن يؤديا أمانة التربية.
ولعل السؤال المهم هو: هل يمكن أن يتم ذلك بفضل الوقت وما تبقى من الجهود؟ إن كل ما يحدث من انحرافات الأولاد هو نتيجة القصور في العملية التربوية.
ابنتنا الكريمة، إن التزود المعرفي عن وظيفتك كأمّ هو الذي سوف يرفع من درجة الأهمية ويساعدك على حسن كفاءة أدائها، وهذا ليس معناه أن أطالبك بالإهمال الوظيفي؛ فهي أيضاً أمانة، ولكن بماذا أبدأ؟ أيضاً يجب إيضاح أن لكل الإنسان طاقات وقدرات متباينة، وشاء الله أن يجعلنا مختلفين، فهناك نساء استطعن أن يقمن بواجبات الأمومة على أفضل وجه، وأيضاً أداء الوظيفة بتفوق بل وبتميز، ولكن أذكر أنكِ لستِ أمام خيارين؛ البيت أم العمل؟ فمن المؤكد أن البيت أولاً وليتك تستطيعين أن تؤدي عملك بالمستوى المطلوب.
أيضاً يجب التنبيه هنا إلى معنى مهم جداً؛ ألا وهو أن الأداء النسبي لا يمكن أن يُقبل أو يُعفي من المسؤولية، فلا يمكن أن يُقبل ما تيسر من الاهتمام وما تبقى من الجهد للأبناء.
إن مجرد فكرة منحرفة يوحي بها زميل منحرف لابني، أو رسالة مسمومة من الإنترنت أو الجوال قد تدمر ابني في غفلة مني، وقد أفيق -إن أفقت- بعد فوات الأوان، وإن أبناءنا فلذات أكبادنا تمشي على الأرض، ويجب أن نوجه كل إمكاناتنا وجُل جهودنا نحو بنائهم.
الآثار
إن استمرار الوضع الحالي له آثار سلبية كثيرة؛ فالإحساس بالفشل ما لم يتم توظيفه واستغلاله لإطلاق طاقاتنا نحو النجاح من خلال رؤية واضحة مناسبة وبرنامج معرفي وعملي لتحقيق هذه الرؤى وتحويل الإخفاقات إلى إنجازات، فإنه سرعان ما يدمرنا الإحساس بالفشل، وينخر في عزيمتنا ويدمر طاقاتنا فتتوالى الإخفاقات؛ لذا يجب الإسراع بالخروج من هذه الدائرة الشريرة بفكر وعمل إيجابي، وألا نحاول الهروب منها بإضاعة الوقت والنفس بالتغافل والقيام بما لا فائدة منه، أو الانكفاء على العمل وإثبات الذات بالنجاح المهني هروباً من إخفاقات المنزل.
ودعيني أحذرك -أداءً لأمانة الاستشارة- من أنه من المتوقع إن لم تبادري بالحل الوحيد؛ لأن في هذا النوع من المشكلات ليس هناك حلول متاحة يمكن الترجيح فيما بينها للوصول إلى الحل الأمثل، بل هو حل أوحد وإلا فنسأل الله العفو والعافية، فأنت تقولين: إن هناك بعض التصرفات المريبة وغير المقبولة من الأولاد، وتعللي رد فعلك السلبي بل وللأسف الداعم للأولاد في تصرفاتهم المريبة وغير المقبولة بتعليلين خطيرين لا يمكن أن يُقبلا ممن تتطلع لمنصب وكيل وزارة، وهما:
– حرصك ألا تعكري صفو الأوقات القليلة التي يقضيها معكِ والدهم، وهو الأَوْلى بالمصارحة وسيلقي عليكِ اللوم إذا ما وقعت -نعوذ بالله- كارثة سلوكية.
– أما تعليلك الآخر وهو حتى لا ينفر أولادك منك: إن المحافظة على الود مع الأولاد وسيلة أساسية حتى نتمكن من تربيتهم، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون غاية على حساب العملية التربوية.
الحل
للأسف ليس لدي مجموعة من البدائل كعادتي أطرحها عليكِ، ومن ثَمَّ تختارين من بينها ما يناسب؛ فأمانة الاستشاريّ توجب عليّ أن أقول لك ما يلي:
1- استغفري الله لتقصيرك في حق أداء أمانة الأمومة.
2- في سبيل غاية رضا الله علينا البذل، والمسلم كل حياته عبودية لله مصداقاً للآية الكريمة، (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162}) (الأنعام)، وفقه الأولويات يفرض عليك بيتك أولاً، وأنت في حاجة لتعويض قصور مضى وإعادة بناء ما قد بني من سلوكيات سلبية تريبك، وهذا يتطلب القرب من الأبناء ومصاحبتهم، وبناء جسور الحب والثقة بينكم، وعليكِ أن تتزودي بالمعارف والمهارات والقدرات التربوية للتعامل مع المرحلة العمرية التي يمر بها كل ابن من أبنائك، وحضور الدورات التدريبية والأنشطة، ودروس العمل التربوية، التي تتناسب مع أبنائك.
3- إعادة صياغة الجانب المهني من حياتك، فإذا شعرت أن أولادك محتاجون لكل ثانية حتى يستقيموا على الطريق، فالله يعوضك عن أي عائد معنوي أو مادي بالذرية الصالحة، فالولد الصالح ليس فقط دعوة لنا بعد الممات؛ فهو أيضاً علم ينتفع به، وهو كذلك صدقة جارية بعد انقطاع أعمالنا؛ مصداقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم)، ويمكن لك أن تنتقلي إلى عمل إداري أو استشاري يتناسب مع أداء وظيفتك الأساسية، وهي الأمومة.