“فإني آمرك ومن معك من الجنود بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكون أشد احتراسا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، وعدتنا ليست كعدتهم، فإن استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا نُنصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله، يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منهم، ولا تعملوا في معاصي الله وأنتم في سبيل الله “..
ما سبق كان جزءا من رسالة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الصحابي سعد بن أبي وقاص في موقعة القادسية.
وكعسكري درس وعرف الحياة العسكرية من خلال المؤسسات العربية يجب أن أندهش أن تكون هذه رسالة من القائد الأعلى للقوات المسلحة إلى قائد الجيوش أو القائد الميداني خلال معركة مهمة يتحدد على نتائجها مصير الحملة العسكرية، وربما مصير الأمة كلها. ورسالة الفاروق تؤكد أننا في حاجة إلى إعادة النظر في العقائد العسكرية التي تسود عالمنا العربي، والتي لم نخرج منها إلا بكل إذلال وهزيمة رغم العدد والعدة، وعلى الرغم من أننا “مسلمون” فلا تزال العقيدة الإسلامية العسكرية غائبة غياباً كاملاً عن القوات المسلحة العربية بمؤسساتها المختلفة رغم الانتصار العاطفي لها في حيز الابتزاز السياسي كشعارات ولافتات معلقة.
التكنولوجيا قبل العقيدة
العسكريون في عالمنا العربي ينحازون لصف التكنولوجيا والآلة العسكرية على حساب العقيدة التي لا مكان لها إلا في معركة كلامية أو خطبة حماسية ويحسبون أن النصر للتكنولوجيا، ويهملون شأن الذي يحرك ويبدع هذه التكنولوجيا؛ فالإنسان هو المسيطر عليها، وبدونه لا قيمة لكل سلاح وعتاد، وبدون عقيدة تحقق عنده إرادة القتال لن يتحقق النصر حتى لو توفرت الأسلحة المناسبة.
وبهذا الوعي يضعون المقدمات الخاطئة التي سوف تسلمنا إلى نتائجها الخاطئة حتماً، وهي أن “إسرائيل” تمتلك التفوق التكنولوجي والآلة الفاتكة ونحن لا نملكها، فلم يبق أمامنا إلا الهزيمة والاستسلام لعدونا وينسون أننا نمتلك التفوق الاستراتيجي، وقد قدمت لنا حركات المقاومة الإسلامية في لبنان وغزة بعض النماذج التي أبلت بلاء حسناً ولم يصبح السلاح عبئاً عليها، وفرضت على العدو الصهيوني خيارات لم تكن مسموحة من قبل وصفقات لم تستطع الدول العربية بجيوشها تحقيقها…
لا أدري كيف أصبح الاعتقاد السائد عند أكثر العسكريين.. أن التدين يعني: التخلف والرجعية والجمود، وأن التقوى تعني البلادة والتواكل والغفلة والدروشة، وأن العسكري الحق هو الذي لا يكون متديناً فحتى شارل ديجول أرجع هزيمة الفرنسيين أمام الألمان إلى أسباب أخلاقية بمقولته “هزمنا الانحلال قبل الاحتلال”، ومونتجمري القائد الإنجليزي يؤكد على أن العقيدة والتدين هي السلاح الأساسي في الحرب.
واشترك في تربية هذا الاعتقاد السلبي عن العسكري وسائل الإعلام فيما تبثه من مواد سلبية وخاصة الدرامية منها التي تشكل الصورة الذهنية عند الشباب الذين هم عماد القوة العسكرية في أي بلد، وعلى العكس فنحن في بحاجة الآن أكثر من أي وقت مضى إلى الثقافة العسكرية العربية الإسلامية في هذه السنين العجاف التي يعيشها عالم المسلمين، ولنا في حركات المقاومة الإسلامية الأسوة الحسنة في لبنان وفلسطين، ومؤخرا ثوار ليبيا الذين قدموا النموذج الأمثل المعاصر للعسكرية الإسلامية بنزاهتها وإصرارها.
دراسة متخصصة
في هذا المناخ وعلى ضوء التحديات القادمة والتي تطل برأسها متحفزة لمستقبل حافل ومتخم منذ اللحظة بتراب المعركة تظهر الحاجة إلى قراءة السيرة النبوية وإعادة كتابة المعارك الإسلامية، بقراءة العسكرية كجزء من العقيدة وثمرة لها، حتى نتمكن من مد الرؤية الصحيحة والحكم على الواقع المتجدد من خلال منظور إسلامي، ذلك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، ولا يتحصل هذا إلا بقراءة العسكرية الإسلامية.
ويخطئ كل الخطأ من يظن، أنه بالإمكان أن يكون العسكري مسلماً ويحارب بعقيدة عسكرية غير إسلامية، والواقع المهزوم دليل ذلك، فضلا عن أن العرب كقوة سياسية لم تظهر إلا بعد دعوة الرسول صل الله عليه وسلم لتصبح إمبراطورية في غضون سنوات قليلة، وباستقراء التاريخ نرى أن المسلمين لما تخلوا عن تطبيق العقيدة العسكرية الإسلامية تخلى عنهم النصر، ذلك أن دراسة العقيدة العسكرية الأجنبية والالتزام بمصطلحاتها، وإهمال العقيدة الإسلامية يصب الدارس بقدر من الهزيمة النفسية يحطم معنوياته ويلغي شخصيته، ويشعره دائماً بعقدة التفوق لدى أعدائه فمن أين النصر؟.
لقد تحدث المفسرون والمحدثون والمؤرخون والفقهاء، وكتاب السيرة في بعض الفصول عن السيرة والمغازي، وعرضوا فيها لغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وسراياه، لكنهم سجلوها كما وردت في الروايات دون أن تكون عند أكثرهم القدرة التخصصية على النظرة العسكرية، والخلوص إلى العبر، وإعادة ترتيب المعلومات على شكل يحقق العبرة والخبرة للعسكري المسلم.
ولنا في الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم الأسوة العسكرية النموذجية وسلفنا الصالح، رضوان الله عليهم، كان عليه الصلاة والسلام يعمي أخباره عن أعدائه، وكان يعلن عن منطقة ويحارب في أخرى، ويستعمل التورية، ويستطلع قوة العدو، ويتخير أفضل المواقع لقطع الإمدادات عن العدو وتوفير البيئة المناسبة للمعركة وأنسب الأوقات لها، بل واستخدم الأفكار المبتكرة مثل حفر الخندق.
وكان النبي يقول: “ارموا واركبوا وأن تركبوا أحب إلى من أن ترموا”، وقال: “ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي”. واستخدم الرسول المنجنيق في حصار ثقيف وهو أداة ترمى بها الحجارة على العدو، وتتكون من 28 قطعة من الخشب، وكذلك استعمل الرسول الضبور وهي مثل الدبابة ويدخل الجنود في جوفها للحماية من السهام أثناء اقتحام الحصون.
العسكرية الإسلامية في سطور
لما جاء الإسلام ألف بين قلوب العرب الذين أخذوا يدافعون عنه بالنفس والنفيس، فيلبون دعوة الرسول أو الخليفة، ويقاتلون في سبيل الله ونصر الدين، استخدم المسلمون الأوائل أسلوب الكر والفر وهو أسلوب حربي معروف في الجاهلية، ثم استخدموا أسلوب الصفوف، وكان عمر بن الخطاب أول من جعل الجند فئة مخصوصة؛ فأنشأ ديوان الجند للإشراف عليهم بتقييد أسمائهم وأوصافهم ومقدار أرزاقهم وإحصاء أعمالهم، وفي عهده أيضا تم إقامة الحصون والمعسكرات الطويلة الدائمة لراحة الجنود في أثناء الطريق بعد أن كانوا يقطعون المسافات الطويلة على ظهور الإبل، ولا يرتاحون إلا في أكواخ مصنوعة من سعف النخل.
ومن ثم بنيت العواصم وأقيمت الحاميات لصد الأعداء، وأدخل عبد الملك بن مروان نظام التجنيد الإجباري وقيل إن عدد الجند بلغ 40 ألفا. وفي عهد الأمويين اختلط العرب بالفرس واخذوا عنهم نظام التعبئة فتم تقسيم الجيش إل 5 كتائب قلب الجيش تحت إمرة القائد العام والميمنة والميسرة والمقدمة كتيبة من الفرسان وخلفها كتيبة تسمى ساقة الجيش.
أما عن أسلحة الجند فكان الجيش يتكون من الفرسان والرجالة والأسلحة من السيوف والرماح والدروع والقسي والسهام وكان العرب في الجاهلية يستعملون هذه الأسلحة للحماية والصيد وبلغت مهارتهم في الرمي بالقوس أن الرامي كان يستطيع إصابة إحدى عيني الغزال دون الأخرى.
الرجال يقفون في صفوف متزاحمة يتقدمهم حاملو الرماح للحماية من الفرسان وجناحا الجيش من الفرسان عادة، ويتميز جيش المسلمين بالنشاط والخفة فضلا عن الصبر والمثابرة، بالإضافة إلى بذل النفس من أجل الدين وليس السلاح ويلبس الفرسان الخوذ المصنوعة من الصلب والمحلاة بريش النسور، ويرتدى الرجال أقبية قصيرة متدلية إلى ما تحت الركبة وسراويل، وكانوا يكبرون ويتلون الآيات القرآنية في أثناء سيرهم للغزو والجهاد وخاصة سورة الأنفال ولها قصة مشهورة في معركة ذات الصواري حيث قرأها الجيش بالكامل ليلة المعركة، وكانت النساء يصحبن الجيش ولهن أماكن مخصصة وخيم التمريض، ومثال ذلك خيمة السيدة رفيدة، أما عن فترة الخدمة فكان الجندي لا يقيم في خدمة الجيش أكثر من 4 شهور إذا كان بعيدا عن أسرته.
بالنسبة للعسكرية البحرية لم يكن العرب يعنون بالبحر وكان أول من ركب البحر العلاء ابن الحضرمي والي البحرين في عهد عمر حيث توجه لغزو فارس مع 12 ألفا بدون إذن الخليفة، وعام إلى البصرة محملا بالغنائم بعد أن فقدوا سفنهم، فلما علم عمر عزله، وألح معاوية على عمر بغزو البحر فلما قرأ عمر وصف عمرو بن العاص للبحر كتب إلى معاوية يردعه عن غزو البحر قائلا “لا والذي بعث محمدا بالحق لا أحمل فيه مسلما أبدا”.
ولما ولي عثمان الخلافة أذن له على ألا يحمل الناس كرها فاستعمل عبد الله بن قيس فغزا 50 غزوة كما انتصر عبد الله بن أبي السرح في معركة ذات الصواري وتم فتح جزيرة قبرص وبلغ أسطول الشام 1700 سفينة وفي عهد معاوية غزا عقبة بن عامر الفهري جزيرة رودوس وفي سنة 53 هـ غزا الروم البرلس في عهد ولاية مسلمة بن مخلد (47-62هـ) وقُتل وردان مولى عمرو بن العاص ومن ثم اهتم أمراء مصر ببناء السفن فأنشئت لأول مرة دار الصناعة في جزيرة الروضة
بالنسبة للمقذوفات رافقت النار الحروب منذ القدم، وتم استخدامها في عمليات متخصصة بالحصار والحروب البحرية فقد اكتشفت نقوش أشورية ظهر فيها مدافعون عن مدينة في القرن التاسع قبل الميلاد وهم يصدون آلات الحصار بسائل محترق والأمثلة اليونانية والرومانية سفينة النار التي تسير مع الريح وتصطدم بسفن العدو والنار الإغريقية والتي استخدمها البيزنطيون ضد المسلمين في حصار القسطنطينية بقيادة مسلمة بن عبد الملك بن مروان على عهد أخيه سليمان بن عبد الملك وقد استخدم المسلمون المقذوفات بدورها خاصة في معركة المنصورة لضرب الأسطول الفرنسي.
وختاما نستطيع القول بأن المكتبة الإسلامية ما زالت فقيرة إلى الدراسات المنهجية المتخصصة للعسكرية الإسلامية في عصورها المختلفة، وإلى القراءة المتخصصة أيضاً لمعارك العالم الإسلامي الحديثة إلى حدٍ بعيد، ورحم الله اللواء الركن محمود شيت خطاب وكتاباته الرائعة في هذا المجال وفي مقدمتها كتاب (العسكرية العربية الإسلامية) و(الوسيط في رسالة المسجد العسكرية) و(الرسول القائدو) (الشورى العسكرية في عهد الرسالة).
ويكاد يكون الوحيد من نوعه في هذا المجال والذي نحن في أشد الحاجة إليه لدراسات متخصصة في هذا الحقل فضلا عن التطبيق العملي في جيوشنا العربية والإسلامية كفريضة غائبة يلح واقع الحال في طلبها على مشارف مستقبل حافل بالتحديات ويتربص بنا العدو من كل حدب وصوب تربص الذئاب والثعابين وللحديث بقية فالحقل حافل بالكثير لنتعلمه والمعركة قادمة والعدو حولنا فمن يستعد؟.
المصادر:
1- النظام الحربي من كتاب تاريخ الإسلام – الدولة العربية تأليف الدكتور حسن إبراهيم حسن الطبعة السابعة 1964
2- كتاب العسكرية العربية الإسلامية – اللواء الركن محمود شيت خطاب.
3- مقالة لمحمود شيت خطاب رحمه الله بعنوان “تاريخ حرب المحرقات “
—–
*عسكري بالجيش الفلسطيني، والمقال نقلا عن “إسلام أون لاين”.