رغم الإنجازات التي تحققت على مستوى مؤشرات الصحة في معظم الدول العربية، فإن الأنظمة الصحية في الوطن العربي ما زالت تعاني من مشكلات بنيوية تؤدي إلى إعاقة تحقيق الأهداف الرئيسة للصحة.
من المسلّم به أنه لا يمكننا أن نرسم صورة موحدة للوضع الصحي في الوطن العربي، حيث إن هناك تبايناً صارخاً في مستوى الرعاية الصحية بين الدول العربية وحتى داخل القطر الواحد، لكن ذلك لا يمنع من وجود بعض القواسم المشتركة من حيث التحديات، وإن كانت بدرجات متفاوتة.
تحديات
لقد أدى التحسن في مستوى الرعاية الصحية والبيئية وانتشار التطعيمات في النصف الثاني من القرن الماضي إلى انخفاض ملموس في عدد وفيات الأطفال والأمهات والحد من الكثير من الأمراض المعدية، وإلى زيادة متوسط عمر الإنسان العربي، حيث زاد متوسط العمر المتوقع للإنسان في الكثير من الدول العربية بمعدل 30 عاماً خلال العقود الستة الأخيرة، وهي زيادة غير مسبوقة، لكنها رتبت تحديات على الأنظمة الصحية، حيث يصاحب التقدم في العمر زيادة في انتشار نوع جديد من الأمراض لم يكن سائداً من قبل وهي الأمراض غير السارية التي تشمل أمراض القلب والشرايين والسرطان وأمراض الجهاز التنفسي ومرضى السكري، فهذه الأمراض تعتبر مسؤولة عن معظم حالات الوفيات في الوطن العربي، وهذا الوضع مرشح للتفاقم في ظل زيادة عدد السكان ومتوسط أعمارهم والانتشار الواسع لعوامل الخطورة التي تؤدي إلى هذه الأمراض مثل: التدخين والسمنة والخمول البدني، حيث تحتل معظم الدول العربية الصدارة العالمية في انتشار هذه العوامل.
فإذا أخذنا التدخين الذي يعتبر مسؤولاً عن حوالي ربع حالات السرطان ومعظم الإصابات بأمراض القلب والشرايين، فإن أكثر من نصف الرجال في الكثير من الدول العربية يدمنون على هذه العادة الضارة، بل وللأسف أصبحت هذه العادة مقبولة اجتماعياً حتى بين النساء العربيات، كما تعاني معظم الدول العربية من انتشار البدانة والسمنة المفرطة والخمول البدني حيث تشير بعض الدراسات إلى أن المؤشرات الحيوية للشباب العربي تشابه مثيلاتها عند كبار السن في الدول الغربية.
ويأتي التزايد في انتشار الأمراض غير السارية في الوقت الذي ما زالت فيه بعض الدول العربية تعاني من استمرار انتشار الأمراض السارية التي عادت بقوة خاصة في ظل الحروب والنزاعات الدامية التي تعصف بالمنطقة، فعدنا نسمع مجدداً عن الكوليرا والسل والجرب والتهاب الكبد الفيروسي وغيرها في مناطق النزاعات وبين المهاجرين، كما تستحوذ الدول العربية على نصيب الأسد من حالات سوء التغذية التي يعاني منها الملايين في مناطق الحروب وتودي بحياة آلاف البشر.
كما تشهد الدول العربية تزايداً غير مسبوق في انتشار الأمراض النفسية نتيجة الحروب والبطالة وغياب العدالة وفقدان الأمل بالمستقبل، حيث يقدر إصابة واحد من كل 4 أشخاص بأحد هذه الأمراض التي تشمل الاكتئاب والفصام والاضطراب ثنائي القطب ناهيك عن الانتشار الواسع لتعاطي المخدرات، ورغم ذلك تفتقر معظم الدول العربية إلى الرعاية النفسية وما زالت الوصمة الاجتماعية تشكل عائقاً أمام الحديث عن هذه الأمراض.
لكن السؤال الحاضر بقوة هُنا: ما مدى استعداد الأنظمة الصحية العربية للتعامل مع هذه التحديات؟ للأسف فإن معظم الأنظمة الصحية في الوطن العربي غير مستعدة لمواجهة هذه التحديات، وتعاني من مشكلات بنيوية كثيرة، فعلى صعيد البنى التحتية نجد أن هذه البنى ضعيفة في معظم الدول العربية، وإن كان بدرجات متفاوتة، وإذا كانت موجودة فهي مشتتة وتعاني من سوء التوزيع والتركز في المدن الكبرى، كما تعاني معظم الأنظمة الصحية العربية من ضعف الرعاية الصحية الأولية التي تعتبر حجر الأساس في أي نظام صحي.
قليلة هي الدول العربية التي تمكنت من إنشاء نظم للتغطية الصحية الشاملة الذي يعتبر ضمانة لحصول المواطنين على رعاية صحية مناسبة دون التعرض لخطر الإفلاس نتيجة المرض، كما تفتقر معظم الدول العربية لأنظمة واضحة لتحويل المرضى إلى المراكز والمستشفيات المختصة، حيث تخضع هذه إلى المزاجية والعشوائية وانتشار المحسوبية.
أما على مستوى الكوادر البشرية المدربة، فإن معظم الدول العربية تعاني نقصاً حاداً في هذه الكوادر كماً ونوعاً، ففي الوقت الذي تعاني فيه الدول الفقيرة من هجرة العقول إلى الدول العربية الأغنى أو إلى الغرب طلباً لحياة أفضل، تعاني الدول الغنية من الاعتماد على العمالة الأجنبية التي لا تؤسس لنظام قابل للاستدامة.
كما تعاني الدول العربية من ضعف البرامج التعليمية والتدريبية في مجال الصحة، حيث يعتمد الكثير منها على العدد على حساب النوع.
تعتبر قلة الوعي من أبرز التحديات التي تواجه الأنظمة الصحية العربية؛ مما يؤدي إلى استفحال الأمراض وتشخيصها في مراحل متقدمة؛ وبالتالي سوء النتائج، ويساهم في ذلك غياب برامج الوقاية من الأمراض السارية وغير السارية، وغياب ثقافة الكشف المبكر عن بعضها.
كما تفتقر معظم الدول العربية إلى خطط إستراتيجية علمية وشاملة ومحددة الأهداف والموارد لمواجهة الأمراض المختلفة، ولا تعدو معظم ما تسميها هذه الدول خططاً وثائق يكون مصيرها الحفظ في أدراج وزراء الصحة في ظل غياب آليات واضحة لتنفيذها.
كما يؤدي غياب الحوكمة الرشيدة عن معظم الأنظمة الصحية العربية والفساد المستشري إلى ضعف كفاءة هذه الأنظمة وإلى هدر هائل في المقدرات عدم ربط المشاريع والأجهزة الباهظة الثمن بالقيمة المتحققة منها.
ويبقى شح الموارد المالية عاملاً ضاغطاً وعائقاً في طريق تقدم الأنظمة الصحية العربية، حيث تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن الدول العربية تخصص للرعاية الصحية أقل من 7.8% من إجمالي الإنفاق الحكومي، ورغم التحسن في إنفاق الدول العربية على الصحة نسبة إلى إجمالي الناتج المحلي من 3.7% عام 1995 إلى 4.9% عام 2014 فإن هذه النسبة تبقى قليلة مقارنة بدول العالم المتقدم.
أما نصيب الفرد العربي من الإنفاق على الصحة فيشهد تبياناً واضحاً بين الدول، حيث يبلغ أقصاه في قطر حيث يتجاوز الـ2000 دولار أمريكي سنوياً، بينما لا يتجاوز 50 دولاراً في موريتانيا.
حلول
لا بد لنا إن أردنا النهوض بصحة المواطنين في وطننا العربي البدء بإصلاحات شاملة وواسعة للأنظمة الصحية القائمة، واعتماد مبادئ الحوكمة الرشيدة وبناء إستراتيجيات صحية قابلة للتنفيذ تحمل بين طياتها آليات تنفيذية ومالية واضحة، كما يترتب علينا القيام بإصلاحات شاملة في أنظمة التأمين الصحي وإصلاحات ضريبية تؤمن الموارد المالية التي تضمن استدامة الأنظمة الصحية.
كما يجب إعادة الاعتبار للوقاية من الأمراض كحجر أساس لأي نظام صحي، كما لا يمكن أن نضمن عدالة وسهولة الوصول للخدمة الصحية دون تطبيق برامج الرعاية الصحية الشاملة.
_____________________
(*) مدير مركز الحسين للسرطان