يحي التونسيون هذه الأيام الذكرى الـ66 لاغتيال الشهيد الإسلامي فرحات حشاد، الذي كان معتزاً بانتمائه العربي الإسلامي، وضمن ذلك خطابه النقابي السياسي التحرري، ولذلك اعتبرته فرنسا أخطر المناضلين المناهضين للاحتلال، ولا سيما أخطر ما فيه وهو الاحتلال الثقافي، واللغوي، والقانوني، وكل ما وجودي في الحياة، فقامت بتصفيته عن طريق ما يوصف بالجيش السري للجمهورية الاستعمارية وذلك في الخامس من ديسمبر 1952 م تاركة المجال مفتوحاً لربيبها الحبيب بورقيبة.
أحبك يا شعب
“أحبّك يا شعب”، هكذا صدح الزعيم الوطني فرحات حشاد الذي اهتزّت تونس وعدة عواصم عربية وأوروبية لاغتياله، في ديسمبر 1952م، فقد أعجز الشهيد النقابي المستعمر الفرنسي عن سجنه أو نفيه بسطوع نجمه في الأوساط العمّالية العالميّة، ما أكسبه نوعاً من الحصانة، لتمتدّ له يد الغدر بأوامر فرنسية بهدف إخماد صوته، صبيحة الخامس من ديسمبر 1952م في ضاحية رادس بتونس العاصمة، عندما كان متوجّهاً بسيارته إلى المقر المركزي للنقابة العمّالية ليتلقى وابلاً من الرصاص أودى بحياته، فرحل تاركاً زوجة في الثاني والعشرين من عمرها، رفقة ثلاثة أبناء أكبرهم يبلغ من العمر ثماني سنوات.
ميلاده ونشأته
ولد حشّاد في الثاني من فبراير 1914 م في العباسيّة، شمال جزيرة قرقنة التونسية، من أسرة فقيرة، ما اضطرّه إلى ترك مقاعد الدراسة في سنّ مبكرة إثر وفاة والده ليلتحق بإحدى شركات النقل البحري بمدينة سوسة ويعمل كناقل بضائع بها، وقد بدأت رحلته في نحت مسيرة نقابية في سنّ مبكرة سنة 1936م مع نقابة عملة النقل، ليقود إضراباً عماليّاً ناجحاً عام 1937م كوفئ على إثره بالنقل من قبل شركته إلى صفاقس بالجنوب كعقاب له، ثم انتهى به الأمر إلى طرده من وظيفته عام 1939 م بسبب نشاطه النقابي وانحيازه للعمّال.
الاتحاد العام التونسي للشغل
جهود متضافرة، وتحركات عديدة على الصعيدين الوطني والدولي، قام بها شهيدنا، أثمرت قراراً اتخذه فرحات حشاد وأعلن عنه يوم 20 يناير 1946، بإنشاء حركة عمّالية تعدّ أول منظمة نقابية في أفريقيا والعالم العربي، الاتحاد العام التونسي للشغل.
وقد كان مع حشاد مجموعة من شيوخ الزيتونة حضروا التأسيس، وأسندت الرئاسة الشرفية للاتحاد العام التونسي للشغل للشيخ محمد الفاضل بن عاشور، وتم انتخاب فرحات حشاد كأول أمين عام، إضافة إلى تعيينه عضواً مساعداً للاتحاد الدولي للنقابات الحرة مكلفا بالشؤون الأفريقية.
أبرز رموز الحركة الوطنية
لم يكن حشاد زعيماً نقابياً فحسب، بل كان من أبرز رموز الحركة الوطنية في مواجهة قوى الاستعمار الفرنسية، وقد ساهم في تدويل القضية التونسية من خلال سفره إلى عدّة وجهات كواشنطن وسان فرانسيسكو ونيويورك وبروكسل وغيرها خلال مناقشة مجلس الأمن لقضية استقلال تونس والمغرب.
وباعتقال سلطات الاستعمار لجميع الزعماء والقادة الوطنيين في بداية 1952، تولّى فرحات حشاد مسؤولية قيادة المقاومة التونسية في وجه فرنسا، فتعالت الأصوات واشتدت التحركات الشعبية والإضرابات تزامنا مع انتهاج الكفاح المسلح، ما سبب ارتباكا للمستعمر الذي تيقّن أن الزعيم النقابي وراء كل ذلك، فتمّ اتخاذ القرار بوجوب التخلص منه.
وهذا ما كان، بتنفيذ المنظمة الفرنسية السرية التي تدعى “اليد الحمراء” لعملية اغتياله نهاية عام 1952، وقد أصدر عضو المنظمة المدعو أنطوان ميلير لكتاب عام 1997 تحت عنوان “اليد الحمراء: الجيش السري للجمهورية”، واعترف فيه بتنفيذه لعملية الاغتيال بأوامر فرنسية، كما صرح بذات الأمر في فيلم وثائقي بُثّ عام 2009 على قناة “الجزيرة” القطرية، وقال: إنه قام بأمر شرعي لن يتردد في إعادته لو طلب منه ذلك.
تصريح قُدّمت على خلفيته شكاوى لدى القضاء الفرنسي عام 2010، من طرف الاتحاد العام التونسي للشغل وعائلة الشهيد، إضافة إلى منظمات فرنسية، لتجابه جميعها برفض قضائي.
وجدير بالذكر أن الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا هولاند، قد قدم وثائق سرية عام 2003 م إلى زوجة وابن الزعيم فرحات حشاد تؤكد أن اغتيال حشاد قد تم من قبل مخابرات سرية تابعة للحكومة الفرنسية تدعى “اليد الحمراء”.
توجه حضاري
لم يكن همّ فرحات حشاد وطنياً فحسب، بل إنه دعا إلى تكوين اتحادات عمالية في شمال أفريقيا، واتجه إلى تشجيع الاتحادات النقابية في المغرب والجزائر، كما دعا إلى تأسيس اتحاد عمالي في ليبيا، أملاً في وضع لبنات اتحاد عمالي موحد، لا يتوقف نشاطه على العمل النقابي فحسب، بل يعمل على الاستقلال وما بعده، وقد تجلّى إيمانه بضرورة توحيد الحركة النقابية المغاربية في محاضرة ألقاها في باريس يوم 20 ديسمبر 1946 أمام طلبة شمال أفريقيا، حيث قال: “هذا وإنّ حركتنا العمّالية لا يمكن أن تبقى منكمشة داخل الحدود التونسية، وانخراطها في الجامعة النقابية العالمية سيضمن لتونس مقعدها بين الأمم الأخرى للعمل على تحقيق الحياة الكريمة للطبقة العمالية في العالم، غير أنّ العمل اليومي لمنظمة نقابية في النطاق المحلي محتاج أيضاً إلى الاعتماد على وحدة عمّال جميع منظمات البلاد ذات الخطوط المشتركة في ميادين الحياة الأخرى، وأعني بذلك توحيد الحركة النقابية في شمال إفريقيا وهو حلم لن ندخر جهدا في سبيل تحقيقه”. وتابع” لا مجال أنّ حظ بلدان شمال إفريقيا الثلاث مشترك ووثيق الارتباط وقضيتها واحدة على وجه الإطلاق وعلى هذا يجب إحكام عقد الرباط الأخوي المتين الذي يربط بين الطبقة العمّالية في الأقطار الثلاثة في نطاق جامعة نقابية لشمال أفريقيا”.
جهود دولية
كما كان لحشاد الفضل في توحيد منظمتين عمالتين عريقتين بالولايات المتحدة الأمريكية، فعلى إثر زيارته لها، في شهر أبريل 1952، اقترح على كل من ويليام غرين، من الجامعة الأمريكية للشغل، وجيمس كاري، من منظمة المؤتمر الصناعي لأمريكا، توحيد المنظمتين العماليتين. وقد تم عقد اتفاق الاندماج بالفعل يوم 5 ديسمبر 1955، أي في الذكرى الثالثة لاغتيال فرحات حشاد، ما يعكس المكانة العظيمة التي يحظى بها الزعيم النقابي لدى الحركات النقابية والسياسية على صعيد عالمي.
إشعاع إسلامي وعالمي
وقد برز انعكاس البعد المغاربي والعالمي في نضالات الشهيد حشاد على ما عقب عملية اغتياله من تضامن أحرار العالم معه، إذ خرجت المظاهرات في الدار البيضاء، دمشق، القاهرة، بيروت وجاكارتا إضافة إلى مدن أوروبية كبروكسل وميلانو وستوكهولم.. وقد تحولت الاحتجاجات في الدار البيضاء إلى أعمال عنف عقبتها مواجهات مع الشرطة ومع المستعمر الفرنسي راح ضحيتها 40 شخصاً فيما عرف باسم “حوادث فرحات حشاد”، أو “حوادث كريان سنترال”.
فعلى إثر الإعلان عن جريمة اغتيال الزعيم فرحات حشاد، أعلن الاتحاد العام للنقابات المغربية وحزب الاستقلال يوم 6 ديسمبر 1952 عن قرار إضراب عام مدة 24 ساعة ليوم الإثنين الثامن من ديسمبر 1952، وقد استُهلّ قرار الإضراب بما يلي: “إن الطبقة العاملة وشعوب أفريقيا الشمالية والعالم الإسلامي في حداد على إثر الجريمة الشنعاء التي استهدفت حياة أخينا فرحات حشاد، فآلام أفريقيا الشمالية متأججة وكل العمال في حداد”، وقام النقابيون البيضاويون بتشكيل لجان للسهر على تنظيم الإضراب وإنجازه، فغطّت المناشير كل أرجاء المدينة، وخُطّت على الجدران عبارات داعية للإضراب العام.
وقبل يوم من الإضراب المقرر، اجتمع نحو 2000 عامل بشارع لاسال المسمى حالياً “شارع فرحات حشاد”، وسرعان ما تطور الأمر إلى اشتباكات استعمل فيها الرصاص الحي، لتتعاظم الجموع المنضمّة إلى المظاهرات حينها ويسقط عدد من القتلى والجرحى.
وفي ساعة متأخرة من الليل، تمّت محاصرة المنطقة بالمدفعيات الثقيلة من قبل القوات الاستعمارية، لكن ذلك لم يمنع تجدد المواجهات مجدداً صباح يوم الإثنين، حيث ارتفع عدد الضحايا، كما تمّ اعتقال عديد الأسماء النقابية أبرزها المحجوب بن الصديق، عضو مكتب الاتحاد العام للنقابات المتحدة بالمغرب، ومحمد الشرقاوي، كاتب فيدرالية الموانئ والشيالين.
بعد يومين من المواجهات الدامية التي عقبت اغتيال الشهيد فرحات حشاد، استيقظ أهالي الدار البيضاء صبيحة الثلاثاء 9 ديسمبر 1952 على استشهاد ما يقارب 40 من أبنائها، ليخطّوا بدمائهم ملحمة يعجز الاستعمار عن تفكيك شفراتها، فحشاد الذي أقض مضجع فرنسا حيّا في تونس، ألهب صدور جماهير العالم الحر وقوّى شوكة المقاومة ضد المستعمر خارج تونس ميتا، وسيظل اسمه يحلّق عالياً في سماء كل الشعوب الحرة.