قبل أكثر من ألف عام، وقف أحمد بن طولون، مؤسس الدولة الطولونية بمصر، على قمة جبل صخري وسط القاهرة، مناديًا: “أريد أن أبني جامعًا إذا احترقت مصر بقي وإن غرقت نجا”.
وبالفعل شيد جامع “أحمد بن طولون”، ثالث مسجد بني في مصر الإسلامية عام 876م، بعد مسجدي “عمرو بن العاص”، و”العسكر” بالقاهرة، ويعد من أكبر مساجدها، على شكل يبدو كالمربع، بمساحة تقترب من 25 ألف متر مربع.
يقع المسجد بحي السيدة زينب، أحد أشهر أحياء القاهرة التاريخية، وهو من المساجد “المعلقة” لبنائه فوق قمة صخرية تسمى “يشكر” بجبل المقطم.
وتروي إحدى الأساطير المصرية أن على “جبل يشكر” رست سفينة نبي الله نوح بعد الطوفان، التي لم يستدل على مكانها بعد، غير أن مفسرين إسلاميين قالوا: إنها تستقر في مكان حاليًا يقع جنوب شرقي تركيا.
صرح وحصن إسلامي
يقع المسجد على تلة، ومن خلاله يمكن رؤية غالبية معالم القاهرة الأثرية والسياحية، مثل قلعة صلاح الدين الأيوبي وبرج القاهرة وحديقة وجامع الأزهر، ومسجدي الرفاعي والسلطان حسن.
ويتشابه كثيرًا في تخطيطه مع النظم السائدة في بناء المساجد الإسلامية القديمة حيث يتكون من صحن (فناء واسع) في أوسطه، تحاوطه مظلات كانت تعد للتعليم والصلاة وأمور حياتية أخرى.
واعتمد المسجد في بنائه على قواعد ثلاث تخللت الجبل الصخري، وأُسس بحسب طلب ابن طولون كحصن ضد النيران ومانع لوصول مياه فيضان النيل.
وفيضان النيل، يعني تراكم مستوى المياه فوق المعدل الطبيعي السنوي، قبل أن ينظم السد العالي الذي بني عام 1970 جنوبي البلاد، حركة المياه.
في وصف المسجد
وفق معلومات ومشاهدات، للمسجد 42 بابًا منها 19 مدخلاً بأطوال وأحجام مختلفة يقترب طول أغلبها من الستة أمتار تقريبًا، وجميعها خشبية مطعمة ومطرزة بالحديد، وتغلق بمقابض حديدية يقترب طول الواحد منها من المتر.
ويحمل المسجد 180 عامودًا ضخمًا، تعلو أسواره 128 شباكًا مزخرفًا، بخلاف أشكالها البديعة استخدمت تلك الشبابيك في تحديد مواعيد الصلاة، من خلال تعامد الشمس عليها تباعًا، بحسب ما أوضحه أحد العاملين بالمسجد لـ”الأناضول”.
وتتدلى من دعامات سقف المسجد الخشبية مشكاوات على ارتفاعات متفاوتة، مهمتها حاليًا الإنارة.
وعلى الجدران والأعمدة الضخمة بالداخل حفرت لوحات كبيرة مكتوب عليها آيات قرآنية، وتواريخ بناء وتجديدات المسجد.
فيما تعلو الجدران من الخارج رسومات محفورة على هيئة نجوم يعلوها مجارٍ صغيرة لتصريف مياه الأمطار.
وللمسجد قبة متوسطة تتوسد أحد أطراف رواقه المخصصة للصلاة، وهي تعلو المنبر، وخلفها بنيت رافعة خشبية مستطيلة تسمى بـ”دكة المُبلغ” التي لا تزال تحتفظ برونقها الخشبي.
ووظيفة المُبلغ كان ترديد تكبيرات الإمام أثناء الصلاة، كي يسمعه المصلون في أطراف المسجد البعيدة، وذلك قبيل اعتماد مكبرات الصوت.
كما تتعدد محاريب الصلاة برواقه، وذلك إثر تعدد المذاهب الفقهية التي شهدتها البلاد، أقدمها المحراب الرئيس الذي يرجع لعهد ابن طولون، وهو مجوف ومزخرف بنص مكتوب عليه “لا إله إلا الله محمد رسول الله”، بنيت أعلاه قبة الصلاة حاليًا.
وإلى يسار ذلك المحراب بنى السلطان المملوكي حسام الدين لاجين عام 1296م محراباً عُرف بمحراب السيدة نفيسة.
وذكر أحد عمال المسجد أن السيدة نفيسة حفيدة الإمام علي بن أبي طالب، كانت تتعبد بتلك المنطقة قبل بناء المسجد، فيما بُنيت بقية المحاريب في أزمنة مختلفة من العصر الإسلامي.
ويحتضن صحن المسجد الميضأة (مكان الوضوء)، تحاوطها جدران ضخمة ترفع قبة متوسطة، أسفلها مكان الوضوء مسطح ومثمن الأضلاع.
وفي سماء “ابن طولون” تعلو أول مئذنة حلزونية بنيت في مصر، يبلغ ارتفاعها نحو أربعين مترًا، وهي مربعة الشكل من الأسفل، ثم أسطوانية تنتهي بعد 308 درجات سلم بقبة صغيرة تؤدي أيضًا لسطح المسجد، ولا تزال صامدة منذ بنائها.
ولتسليط الضوء على أحد أبرز المعالم الأثرية المصرية، تطبع أحد أوجه إصدارات العملة الورقية فئة 5 جنيهات مصرية (أقل من ثلث دولار أمريكي) برسم صورة المسجد.
وفي عام 2005، شهد المسجد عملية ترميم وزخرفة كبيرة، قبل أن يتم افتتاحه كواحد من بين 38 مسجدًا تم ترميمها ضمن مشروع القاهرة التاريخية، بتكلفة تجاوزت آنذاك 12 مليون جنيه (نحو 675 ألف دولار).
وخلال السنوات الثلاث الماضية، أعلنت مصر اكتمال ترميم مبانٍ ومساجد أثرية، واستكمال ترميم أخرى تعود إلى العصور الإسلامية لمختلفة.