أكد أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية وصفي عاشور أبو زيد أن مقاصد الشريعة الإسلامية لها مجالات إعمال واسعة في الواقع والمجتمعات، وأن لها وظائف إصلاحية كثيرة ومتنوعة ارتبطت بها عبر تاريخها الطويل، وارتبط أعلامها بهذا الإصلاح والتجديد والتطوير.
وبين عضو الأمانة العامة لاتحاد علماء المسلمين في الجزء الأول من حواره مع “المجتمع” أن العلماء هم المنوط بهم بيان مقاصد الشريعة؛ حيث يوجد اتجاه باطني علماني يريد تفريغ الشريعة من مضمونها عبر بوابة المقاصد باستخدام خاطئ، كما أن هناك تياراً آخر يريد البعد عن المقاصد ويخاف من إعمالها والعمل بها، فهو موقف متطرف في مقابل موقف متحلل.
ما التعريف الشامل لمقاصد الشريعة؟
– مقاصد الشريعة عرفها كثير من العلماء قديما وحديثا بتعريفات متنوعة، والتعريف المختار المختصر والمعبر عنها هو أنها: الغايات التي نزلت الشريعة الإسلامية لتحقيقها من أجل مصلحة العباد في الدنيا والآخرة.
ما الجهة التي من حقها أن تعين مقاصد الشريعة؟
– الجهة التي من حقها تعيين مقاصد الشريعة الإسلامية جهتان: الأولى: هي الشارع نفسه إما من القرآن الكريم أو السنة النبوية، والجهة الثانية هي العلماء المختصون في هذا المجال؛ عملا بقول الله تعالى: {فاسأل به خبيرا} وقوله: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}، فلكل صناعة أهلها، ولكل علم رجاله..
والعلماء يقومون مع الجهة الأولى التي هي الوحي بالتعامل مع النصوص والكشف عن المقاصد سواء أكانت نصية أم اجتهادية، والاجتهادية يستخرجون المقاصد بها من خلال طرق الكشف عنها المقررة عند الأصوليين، ومنها النص، ومجرد الأمر والنهي، والاستقراء، والاستنباط، ومعرفة أسباب النزول والورود، والتأمل في اختلاف الفقهاء، وغير ذلك.
هل تعيين مقاصد الشريعة أمر توقيفي أم اجتهادي؟
– تعيين مقاصد الشريعة منه ما هو توقيفي وهو المقصد المنصوص، مثل قوله تعالى: {مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]، ومنها ما هو اجتهادي استنباطي من خلال المسالك المذكورة أعلاه، ومن ذلك المحرم للمرأة في السفر، ففي “صحيح مسلم” عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفراً يكون ثلاثة أيام فصاعداً إلا ومعها أبوها، أو ابنها، أو زوجها، أو أخوها، أو ذو محرم منها”؛ فما هو المقصود من المحرم، هل هو مقصود لذاته أم لمعنى استنبط من النصوص ونظر الفقهاء؟
يرى الشافعية مثلا أنه يجوز للمرأة أن تسافر دون محرم ولكن في رفقة مأمونة! فهي بمثابة المحرم للمرأة، وحديث الظعينة معروف في ذلك، فقد رواه البخاري عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: “فإن طالت بك حياة، لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدا إلا الله”.
ولنا أن نعرض صورة أخرى لهذا الحكم: هل لو خرج مع المرأة محرم كسيح أعمى أصم أبكم يتحقق به الحكم الشرعي؟!
لا شك أن التأمل في هذه النصوص وخلاف الفقهاء والتدقيق في صور الحكم يفضي بنا إلى القول بأن المقصود من المحرم هو توفير الأمن والحماية للمرأة، وهذا أمر يجتمع فيه الرجال والنساء لكن النساء يحتجنه أكثر لضعف بنيتهن وعدم امتلاكهن قدرة المواجهة للأخطار كما هو الأمر مع الرجال، ومع هذا كره الشرع الشريف أن يسافر الرجل وحده، فروى أبو داود والترمذي والنسائي بسندهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب”.
ما مجالات استعمال مقاصد الشريعة؟
– مقاصد الشريعة الإسلامية تعمل في مجالات عديدة، أولها: مجال فهم النص الشرعي على وجهه الصحيح، وتنزيله تنزيلا صحيحا، وتطبيقه على وجهه السليم بحيث يثمر الحكم الشرعي من تطبيقه المقصد الذي شرع من أجله، وبغير المقاصد لن نستطيع فهم الشريعة، وبغير الشريعة لن نملك استثمار مقاصد.
تستخدم الشريعة في الفتوى والاجتهاد، وبخاصة في النوازل والمستجدات، فهي من أقوى الأدوات وأمضى الأسلحة التي يجب أن يتسلح بها الفقيه ويتملكها في رحلته من توصيف حكم شرعي لمسألة مستجدة أو نازلة جديدة، وبخاصة إذا كانت نازلة على الأمة وليست خاصة بالأفراد؛ فالاحتماء بالمقاصد يقي الفقيه والمفتي من الوقوع في الخطأ، ويحفظه من الشرود يمينا وشمالا بعيدا عما أراده الشارع من الأحكام.
تستعمل المقاصد كذلك في مجالات التشريع المختلفة: مجال العقيدة، ومجال العبادة، ومجال المعاملات، ومجال الأسرة، ومجال الحدود والعقوبات، ومجال السياسة الشرعية… إلخ، كل هذه المجالات والأبواب لها مقاصدها الخاصة بها، ويجب أن تنضبط هذه المجالات بمقاصدها، سواء في الفهم أم التطبيق، وقد أبدع العلامة محمد الطاهر ابن عاشور في الحديث عن المقاصد الخاصة في كتابه: (مقاصد الشريعة الإسلامية)، وفي عصرنا تطورت الدراسات والرسائل الجامعية التي تتناول المقاصد الخاصة بكل باب من أبواب الفقه الإسلامي.
وتستخدم المقاصد في التفعيل بمجالات العلوم الأخرى، فما أعظم حاجة العلوم الإنسانية والتجريبية إلى الفكر المقاصدي الذي يضبطها ويجددها ويجعلها تسير على طريقها الصحيح، فالمقاصد فكرة معيارية تقويمية تقييمية توجيهية، من شأن تفعيلها في هذه العلوم أن تضبطها وتوجهها وتجددها وتدخل في العلم ما هو منه، وتخرج منه ما ليس منه.
تستعمل المقاصد أيضا في مجالات الحياة المختلفة، فمن واجب الأفراد والأسر والمجتمعات والمؤسسات والهيئات والاتحادات والروابط والجماعات والأحزاب، والحكومات والتحالفات الإقليمية والعالمية أن تحكّم الفكر المقاصدي في عملها بما للمقاصد من قدرة على ضبط المسار والتقييم والتقويم والتغيير.
كل هذه مجالات تستعمل فيها المقاصد، وتؤتي معها الثمرة المرجوة، فتعمل على تجديدها وتجددها، وقدرتها على الفعل والعطاء والنفع المستمر.
ما الدواعي والبواعث لطرح النظرية المقاصدية؟
– نظرية المقاصد ليست أمراً محدثاً أو جديداً، إنما هي فكرة مصاحبة للوحي، ومن ثم فإن الحديث عن طرحها وتصور أنها أمر حادث ظهر مؤخرا، هذا تصور خاطئ عن المقاصد وعن الشريعة معا، قد يكون من المعقول أن نتساءل: لماذا توسع الحديث عن المقاصد في عصرنا، ولماذا أصبحت له مؤتمرات وندوات ومقررات ومؤلفات ومصطلحات ورسائل وكتب وبحوث وبرامج ومراكز وغير ذلك؟
والحق أن الاهتمام بالمقاصد يُستدعى ويتنامى في عصور تشبه عصرنا، تلك العصور التي تشهد تحولات كبيرة وظواهر ضخمة لا يسعف الفقيهَ فيها النصُّ الجزئي وحده، وإنما لابد معه من الاستنجاد فالفقه الحضاري الذي هو فقه السنن وفقه الواقع وفقه الموازنات وفقه الأولويات، وفقه المآلات، ومن هذه المنظومة وعلى رأسها فقه المقاصد الذي أعتبره أبًا لكل هذه الألوان من الفقه.
فطرح نظرية المقاصد ليس جديدا لكن قد يزداد الاهتمام به في مثل عصرنا، فضلا عن الفوائد التي تحققها المقاصد ونظريتها وقد أشرنا لبعضها قبل قليل.
لماذا راجت نظرية المقاصد عند المالكية أكثر من غيرهم من أتباع المذاهب الإسلامية؟
– يعتبر الإمام مالك من أهم الوارثين الشرعيين لهذا الفكر، حتى ادعى أبو بكر ابن العربي في (القبس شرح موطأ مالك بن أنس) أنه انفرد به، فقال: “وأما المقاصد والمصالح فهي أيضًا مما انفرد بها مالك دون سائر العلماء”، وقال أيضًا: “ما كان أغوصه على المقاصد، وما كان أعرَفَه بالمصالح!”.
ومعروف عن المذهب المالكي أنه يتوسع – توسعًا منضبطًا – في الأخذ بالمصالح المرسلة وسد الذرائع، وهما أصلان لهما صلة قوية بمقاصد الشارع ومقاصد المكلف، بالإضافة إلى الاستحسان والعُرف واعتبار مقاصد المكلَّفين، ولا يخفى ما لذلك من صلة بمقاصد الشريعة، ولعل أبواب العقوبات والبيوع والأحوال الشخصية تُعَد من أكثر الأبواب التي يتجلى فيها هذا المسلك، ولا شك أن المصالح المرسلة ومراعاتها، وسد الذرائع وضبطها يعدان منطلقًا للتفكير المقاصدي، ولعل المذهب المالكي هو صاحب اليد الطولى بأعلامه ومؤلفاته في هذا الميدان.
على أن ادعاء أن المقاصد راجت عند المالكية دون غيرهم ادعاء غير صحيح، فللشافعية جهد ملحوظ وريادة بارزة في ذلك، وحسبنا أن نقرأ ما كتبه الجويني والغزالي وابن عبد السلام وغيرهم.
لماذا تم وضع نظرية مقاصد الشريعة في المغرب العربي تأسيساً وتأصيلاً؟
– نظرية مقاصد الشريعة لم توضع في المغرب العربي، إنما كان أول بزوغها في المشرق على يد الأئمة: الجويني والغزالي والعز بن عبد السلام، والعز له جهد خاص في ذلك، ثم بعد ذلك ظهر القرافي الذي هو تلميذ للعز، ثم الشاطبي باني عمارة هذا الفن، ثم ابن عاشور وعلال الفاسي، واليوم شمس المقاصد لا تشرق من الشرق ولا الغرب وإنما تشرق من لندن؛ حيث مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية التابع لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي.
ومع هذا فإن هنالك اهتماما خاصا في المغرب بنظرية المقاصد، ولا يجادل أحد في أن المغرب العربي قدم لدراسات المقاصد في عصرنا أكثر مما قدم غيره، سواء على مستوى التأصيل أم مستوى التطبيق والتنزيل والتفعيل، ولعل هذا يرجع إلى أن مذهبهم الفقهي هو المذهب المالكي الذي تحدثنا عن بعض خصائصه قبل قليل.
ما مدى فعالية النظرية المقاصدية؟
– نظرية المقاصد تنظيرا وتفعيلا هي من أهم النظريات التي كونها العقل الأصولي المسلم باعتبارها فكرة معيارية حاكمة، سواء على مستوى فهم النص الشرعي والتعامل معه، أم على مستوى التنزيل، أم على مستوى الاجتهاد في النوازل والمستجدات، كما أنها معيار نقيس عليه مدى صحة الفتاوى الصادرة قديما وحديثا، وينضوي تحت فكرة المقاصد أنواع الفقه الحضاري الأخرى، مثل: فقه الأولويات، وفقه الموازنات، وفقه الواقع، وفقه المآلات.. فعلم المقاصد ونظريتها هو الذي يحكم على هذه الألوان من الفقه، يوجهها، ويضبط مسارها، ويكون مقوّما ومقيّما لحركتها. كما أن لنظرية المقاصد حيوية خاصة في علوم القرآن وعلوم السنة، بل في العلوم الإنسانية وكذلك العلوم التجريبية حال تفعيلها في هذه العلوم، فهي تحقق لها الثراء والتطوير والضبط والتجديد.
كما أن لفكرة المقاصد فعالية في مجالات الحياة المختلفة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والتعليمية والثقافية والإدارية وغير ذلك من مجالات؛ إذ حدد الشرع الشريف مقاصد لكل مجال من هذه المجالات، ومن شأن هذه المقاصد أن تكون معيارا حاكما وموجها ومجددا ومقوما لهذه المجالات، فنقيس هذه المجالات ونحاكمها إلى مقاصدها، فهذا وحده هو الكفيل بتطوير هذه المجالات وتوجيهها نحو المسار الصحيح وضبط حركتها في الحياة، وتحديد الوسائل اللازمة والمناسبة لها.. وفي المجال الأسري الذي حدد الشرع مقاصده كذلك يمكن محاكمة الأسرة في ممارساتها إلى مقاصد الشرع من الأسرة، وهكذا في كل مجال.
كما أن للمقاصد دوراً في ترشيد الحياة السياسية والاجتماعية، فنصب الحاكم له مقاصد، وللمحكومين أدوار ووظائف يؤدونها، ولتوجيه حركة الحياة السياسية لابد من فكرة المقاصد: هل الممارسة السياسية تحقق مقاصد السياسة في الإسلام أم لا؟ هل حركة الاقتصاد في المجتمع وتصرفاته تحقق مقاصد الاقتصاد أم لا، هل التعليم والتربية يحقق مقاصده في المجتمع ومؤسساته أم لا؟ وهكذا في كل مجال يتبين أن لفكرة المقاصد أثرا كبيرا وفاعلية ملحوظة في تجديد العلوم وضبط مجالات الحياة وتوجيه مسارها وترشيد حركتها.
ما مدى تأثير النظرة المقاصدية في فعالية وحيوية الدين والتدين على مستوى الفرد والمجتمع؟
– للناس في التدين مذاهب شتى واتجاهات متعددة ومتباينة، فيقع الناس في التدين – كما هو الحال في مجالات عدة – بين طرفي الإفراط والتفريط، فهناك من يتحلل وهناك من يتحجر وهناك من يتوسط، وللشيخ محمد الغزالي المصري كلام طويل في محاربة ما أسماه (التدين المغشوش) الذي يركز على العناوين ويهمل المضامين، ويركز على المظهر دون الجوهر، ويواظب على السنن ويعامل الناس بغلظة وفظاظة، فالدين – عنده رحمه الله تعالى – قلب نقي وعقل ذكي وخلق سوي وسلوك رشيد.
ومن شأن معرفة مقاصد الأحكام أن تزيد في الامتثال للأوامر والانتهاء عن النواهي، والانقياد والاستمرار والإتقان في الأداء، وهذه الوظيفة التي تؤديها المقاصد خاصة بالمكلف، فإنه إذا علم مقصد الحكم “زاد” امتثاله وانقياده، واستمراره وإتقانه للعمل، ودفعه إليه وتنشيطه عليه، على مجرد الامتثال والانقياد والاستمرار والإتقان، وبخاصة في أمور العبادات، ولهذا قال الآمدي في الإحكام: “ما يدل على العلة ـ يقصد من النصوص ـ يكون أولى؛ لقربه من المقصود؛ بسبب سرعة الانقياد، وسهولة القبول”. وقال ابن عاشور في التحرير والتنوير: “وفي الإعلام بالعلة تنشيط للمأمور بالفعل على الامتثال؛ إذ يصير عالمًا بالحكمة”. ويقول شيخنا د. أحمد الريسوني في كتابه مدخل لمقاصد الشريعة: “إن معرفة مقاصد الأعمال تحرك النشاط إليها، وتدعو إلى الصبر والمواظبة عليها، وتبعث على إتقانها والإحسان فيها”.
ولا يعني هذا أن العبد لا يمتثل أو ينقاد لأمر الله ويقبل على تنفيذ حكمه إلا بمعرفته للمقصد أو أسرار الأحكام، وإنما يكفي أنه أمر الله أو أمر رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهذا وحده كافٍ للامتثال والانقياد والاستمرار، ولهذا فإننا نتحدث هنا عن “الزيادة” في هذه المعاني، وليس مجرد الإتيان بها.
ويقول المناوي في كلام نفيس عن ذلك في كتابه فيض القدير: “من فقه عن الله أمره ونهيه، وعلم لماذا أمر ونهى، تعاظمَ لذلك وكبر في صدره شأنُه، وكان أشدَّ تسارعًا لما أمر، وأشد هربًا مما نهى؛ فالفقه في الدين جند عظيم يؤيد الله به أهل اليقين الذين عاينوا محاسن الأمور ومشائنها وأقدار الأشياء وحسن تدبير الله تعالى في ذلك لهم بنور يقينهم ليعبدوه على بصيرة وطمأنينة، ومن حُرم ذلك عَبَدهُ على مكابدة وكره؛ لأن القلب وإن أطاع وانقاد لأمر الله فالنفس إنما تنقاد إذا رأت نفعَ شيء أو ضره، والنفس والشيطان جندُهما الشهوات؛ فيحتاج الإنسان إلى أضدادهما من الجنود ليقهرهما، وهو الفقه”.
فليس من المعقول أن يستوي العبد الذي يعرف هدف الحكم مع العبد الذي لا يعرف، في سرعة الامتثال، وفي الانقياد، وكذلك الاستمرار والإتقان، وهذا لا يعد قدحًا في عبودية العبد أو عقيدته، فهناك حد أدنى من الامتثال والانقياد والاستمرار والأداء لا يجوز لأحد النزول عنه سواء علم مقاصد الأحكام أم لم يعلمها، وإنما يتفاوت العباد في درجات هذه المعاني ويتفاضلون بقدر معرفتهم بما نحن بصدد الحديث عنه.
بل جعل العلامة المحقق ابن قيم الجوزية معرفة الحِكَم والمقاصد والأسرار بابًا ينقل العبد من مجرد الامتثال إلى المحبة والمعرفة والحمد والإجلال، فقال في مدارج السالكين: “إن للحكم في كل مسألة من مسائل العلم مناديًا ينادي للإيمان بها علماً وعملاً؛ فيقصد إجابة داعيها ولكن مراده ـ أي الهروي صاحب منازل السائرين ـ بداعي الحكم الأسرار والحكم الداعية إلى شرع الحكم، فإجابتها قدر زائد على مجرد الامتثال؛ فإنها تدعو إلى المحبة والإجلال والمعرفة والحمد، فالأمر يدعو إلى الامتثال، وما تضمنه من الحكم والغايات تدعو إلى المعرفة والمحبة”.
ومن هنا لم يكن غريبًا أن تُشفع كثير من نصوص القرآن والسنة ببيان الهدف من أحكامها، سواء أكان في المأمورات بذكر الأجر والثواب المترتب على القيام بها، أم في المنهيات بذكر الإثم والعقوبات المترتبة على إتيانها، وفي ذلك ما فيه من تحفيز الناس على السرعة والزيادة في الامتثال والانقياد، والإتقان في العمل، والاستمرار بحب ورضا وحمد وإجلال، وليس مجرد الامتثال والسمع والطاعة فقط، وإلا لما كان في ذكر النصوص لذلك معنى.
كما أن لمعرفة مقاصد الشرع ومقاصد أحكامه وأسرار تكليفاته أثرا قويا في سلامة الإتيان بالتكليف وحسن التطبيق والتطمين؛ إذا كانت معرفة المكلف للمقاصد تحمله على مزيد من الإتقان والامتثال، وتزيل كلله وتنشطه، فإنها كذلك تعمل على حسن تطبيق التكليف، وتسديد العمل، وتجعله على بصيرة؛ فيأتي المكلف بالتكليف على الوجه المقصود منه، ومن لا يعرف مقاصد ما يفعل يوشك أن يزل في عمله، ويحرفه عن قصده وحقيقته، وهذا كلام محسوس ومشاهد في الواقع، ولا يقتصر على العبادات أو الأوامر والنواهي الشرعية فقط، وإنما ينسحب على الحياة ومناشطها المختلفة جميعًا؛ فلا يؤتى بالعمل على وجهه إلا إذا عرفنا وجهه، ولا نأتي به على الوجه السديد والسليم إلا بعد معرفتنا لغايته ومقصوده ومراده، وإلا أدينا العمل أو التكليف جسدًا بلا روح، وشكلاً بلا مضمون، ونشاطًا بلا أثر ولا فائدة.
بل لا نبالغ إذا قلنا إن الجهل بمقصود الحكم يجعل المكلفين ـ في أحيان كثيرة ـ يأتون به على عكس مراد الشارع، وقد يؤدي ذلك إلى تعطيل آثارها، “كمن يصومون رمضان، ولكنهم يأكلون في رمضان أكثر مما يأكلون في غير رمضان، ويرضون شهواتهم في رمضان بما لا يفعلونه خارج رمضان”.
ومثال آخر من الأمثلة التي يكثر حولها الشغب بين الملتزمين -غير المتعمقين في مقاصد الشرع ومراميه- وهو الأمر بتقصير الثياب، أو النهي عن إسباله.
روى مسلم بسنده عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم” قال فقرأها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاث مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسروا. من هم يا رسول الله؟ قال: “المسبل، والمنان، والمُنَفِّقُ سلعتَه بالحلف الكاذب”.
وذكر جمع غفير من العلماء ـ سبق بيانهم ـ أن هذا الوعيد محمول على من أسبل ثوبه كبرًا وبطرًا، وذلك بجمع النصوص التي وردت في هذا الموضوع، فنتج عن مجموع النصوص تقييد إطلاق هذا الوعيد بالكبر والبطر والخيلاء.
ونحن نتساءل هنا: ماذا لو أسبل ثيابه لغير بطر ولا كبر ولا مخيلة، هل ينطبق عليه هذا الوعيد الشديد، ونُدخل بذلك شعوبًا كاملة في نار جهنم؟ إنه بذلك قد فعل النهي شكلاً، ولكن لم يحصل مقصوده مضمونًا.
ونتساءل من جهة أخرى: ماذا لو قصر ثوبه تخايلاً على الناس بأنه يقيم السنة، وبطرًا وكبرًا واحتقارًا للآخرين لأنهم منفلتون عن الشرع متسيبون معادون للسنة؟ إنه يكون قد التزم شكلاً بالحكم ولكنه حقق المقصود من النهي عن ضده، فانظر إلى أي حد تكون الخطورة!.
ومن هنا يتبين لنا خطورة قيام المكلف بالتكليف دون معرفة مقصوده، ودون علمه بالغاية التي شرع لها الحكم، كما يتبين لنا الأهمية البالغة لأنْ يتفقه المكلف بمقاصد الأحكام والتعرف إلى الغايات التي شرعت لها الأحكام بشيء من التفصيل والتحديد ما أمكنه ذلك.
فمثلا: لو عرف المسلمون – كما يقول الشيخ الريسوني بحق في كتابه الفكر المقاصدي قواعده وفوائده – مقاصد ومرامي ما جاء في دينهم من أحكام المياه، والوضوء، والغسل، والتيمم، والاستنجاء، والسواك، وخصال الفطرة، وطهارة الثوب والبدن والمكان في الصلاة، ومن النهي عن تنجيس الطرق وأماكن الجلوس، وعن الروائح الكريهة ـ لما رأيت دنياهم تملؤها الأوساخ والأزبال والقذارات، ولكانوا آية من آيات الله، وحجة من حجج دين الله، ولو عرفوا الأبعاد التربوية والحضارية للصلاة لتعلموا منها ضبط أعمالهم ومواقيتهم، واحترام مواعيدهم، وتنظيم صفوفهم، وترتيب شئونهم ولتخلصوا من أدرانهم ورذائلهم وانعزالهم وانكماشهم وأنانيتهم وعشوائيتهم، وهكذا يقال في سائر أحكام الشريعة.
إذن فمعرفة مقصود الحكم الشرعي من شأنه أن يُطَمْئن المكلف، ويعمل على حسن تطبيقه للحكم، بعدم تحقيق العكس من مقصوده، وبهذا تؤتي الأحكام الشرعية ثمارها عند تطبيقها، فترشد التدين في المجتمع، وتؤدي نتائجها، وتحقق فوائدها في النفس والمجتمع والأمة.