قال أستاذ مقاصد الشريعة الإسلامية وصفي عاشور أبو زيد: “إن علم المقاصد دليل عبقرية العقل المسلم وآية استثماره؛ لأن وسيلته الأساس هي الاستقراء والاستنباط”، موضحاً أن المقاصد تستخرج عبر مسالك مقررة عند أهل هذا الفن، أغلبها يقوم على العقل المُستنِد للشرع.
وأضاف أبو زيد في الجزء الثاني من حواره مع موقع “المجتمع” أن من خصائص المقاصد أنها ثابتة، فلا تتغير بتغير الزمان ولا المكان ولا الحال ولا الإنسان، لكن الوسائل والآليات والإجراءات هي التي تتغير حسب الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بما يحقق المقاصد.
وحول تأثير المقاصد على علوم الشريعة رأى أن للمقاصد أثراً كبيراً جداً في تقليل الخلاف والوصول للوحدة، ليس في الفقه فقط، ولا بين المذاهب، ولا في المسائل المختلف فيها، ولكن في العلوم الشرعية كلها بل في العلوم الإسلامية والإنسانية جميعاً.
فإلى تفاصيل الحور:
هل سيتم تغيير مقاصد الشريعة مع الظروف الاجتماعية والقانونية..؟
– لمقاصد الشريعة الإسلامية خصائص، أهمها على الإطلاق الربانية، ومن أهمها الثبات، وهي خصيصة منبثقة عن الربانية، فمن خصائص المقاصد أنها ثابتة، فلا تتغير بتغير الزمان ولا المكان ولا الحال ولا الإنسان، لكن الوسائل والآليات والإجراءات هي التي تتغير حسب الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بما يحقق المقاصد.
ففي مجال الاجتماع يحرص الإسلام على أن يكون المجتمع قوي البنيان متماسك النسيج محكم المكونات، فكل ما يحقق هذه المقاصد مشروع بل واجب، وتختلف الإجراءات والوسائل والآليات التي تحقق هذه المقاصد من مكان لمكان، ومن زمان لزمان، ومن حال لحال، فمن شأن المقاصد أن تكون ثابتة، أما الوسائل فمن خصائصها التغير والتعديل والتطوير، ومعيار ذلك هو تحقيق المقاصد.
هل يمكن توسيع نطاق نظرية المقاصد لتشمل سائر نواحي الحياة؟
– بالطبع يمكن توسيع نظرية المقاصد لتشمل سائر نواحي الحياة، فبعد أن بُذلت جهود ودراسات في تأصيل العلم وإنضاجه بمسالكه وضوابطه وقواعده ومصطلحاته، بذلت جهود كذلك في تفعيل المقاصد في العلوم، طلبا لضبط العلوم بمقاصدها، ولكنها تحتاج مزيدا من الجهد وتغطية بعض الفراغات الموجودة، والندوات المتخصصة التي تقام في عصرنا حول المقاصد تهتم بهذا الجانب كثيراً.
ونريد في الفترة الحالية والقادمة من الزمان، بعد أن قامت الصحوة المقاصدية المعاصرة بجهد كبير في التأصيل، وجهد يحتاج للمزيد من التفعيل في العلوم، نريد أن نجعل الفكر المقاصدي ثقافة عامة عند أمتنا ولدى العالم كله .. يقومون بتفعيله على مستواهم الفردي، ومستواهم الأسري، وفي مؤسساتهم ومدارسهم وجمعياتهم وجماعاتهم، بل في الوزارات والحكومات والدول، والهيئات المحلية والإقليمية والدولية؛ بحيث تنضبط كل هيئة أو مؤسسة بمقاصدها، وتحاكم إليها، وتُقوَّم وتُقيَّم على أساسها، وتحدد من الوسائل ما يحقق المقاصد، وتجدد وتطور في هذه الوسائل، وتغير منها إن لزم الأمر.
وبهذا يقوم العلم –علم المقاصد– بوظيفته على أكمل وجه: تأصيلا، وتفعيلا، وتشغيلا.. ونريد أن تكون علومنا كلها على هذا النحو؛ لها أثرها في فكرنا، وفي واقعنا، وحياتنا؛ ترشيدا وضبطا، وتصحيحا وتقويما، فالعلم الذي لا أثر له في الحياة هو والعدم سواء.
لماذا لم تنجح نظرية المقاصد رغم التركيز على أسس إنسانية (حفظ النفس والنسل) في إيجاد دافع نفسي أو خارجي في المجتمع أمام إثارة الحروب والدمار وإراقة الدماء؟
– نظرية المقاصد بحد ذاتها ناجحة جدا في ذلك، ويمكن أن تلعب دورا كبيرا في حقن الدماء، وتحقيق الوحدة، وإرساء معالم السلام في العالم – وهذا موضوع يحتاج لدراسة – وذلك لما في المقاصد من أبعاد إنسانية، ولما لها من طبيعة تمثل أرضا مشتركة يمكن للجميع أن يتلاقى عليها مهما اختلف الدين والفكر والانتماء والأيديولوجيا؛ ولأنها -من ناحية أوضح وأهم- نزلت الشرائع جميعا بحفظ كلياتها أو ضرورياتها، واتفقت على حفظها الإنسانيةُ في كل عصورها، وتُوضع القوانينُ البشرية في ضوئها ولأجل إقامتها والحفاظ عليها.
غير أن المقاصد -كغيرها من العلوم- لن تعمل وحدها، ولن تنشأ أو تنمو في فراغ، ولأن المقاصد ليست المسئولة عن إراقة الدماء أو زعزعة الأمن، كيف ومن ضرورياتها حفظ النفس، وإرساء الأمن، وتحقيق الوحدة؟! إنما المسؤول عن ذلك هو الصراعات البشرية والأطماع الاستعمارية التي تمارسها الدول القوية على الدول الضعيفة، فلو أن الحكام والحكومات ومؤسسات الدول والهيئات العالمية والمنظمات والمجالس الدولية تعتمد نظرية المقاصد في برامجها ومشاريعها، وتقوم بتفعيلها في ممارساتها، وتحكيمها في أفعالها، وتقييم تصرفاتها على أساس نظرية المقاصد.. لوجدنا العالم على غير ما هو عليه الآن، ولكن الحاصل أن العالم بأطماعه الاستعمارية، وصراعاته السياسية، ومصالحه الضيقة يتصرف بمعزل كبير عن حدود نظرية المقاصد ووظائفها؛ ولذلك نرى الأعراض تستباح، والدماء تسيل، والأرواح تزهق، والأمن يتزعزع، والأوطان تخرب، والخاسر الوحيد من ذلك هو الإنسان الذي نزلت الشرائع وأُرسلت الرسل من أجل الحفاظ على حياته وحريته وكرامته.
لماذا لم تتمكن النظرة المقاصدية رغم التركيز على الأساس العقلي (حفظ العقل) من رواج وتوسيع القراءة العقلانية للدين بين المسلمين عبر تاريخ الفكر الإسلامي؟
– هذه دعوى تحتاج لإعادة نظر؛ إذ العلوم الإسلامية التي نشأت والتراث الإسلامي والعربي الكبير الذي ورثته الأمة وأضافت إليه كسْبها وعلمَها وتجديدها جيلا بعد جيل، يقوم شاهدا ودليلا على أنه لولا الاهتمام بالعقل وإفساح المجال له لما أنتجت الأمة هذا التراث العظيم عبر عصورها، وهو تراث لم يُتح لأمة من الأمم عشر معشاره.
إننا لو نظرنا فقط إلى إنتاج بعض فلاسفة الإسلام الذين اشتغلوا بالفلسفة والفكر وهم فقهاء وأصوليون كذلك لوقفنا على حقيقة ثمرات العقل المسلم..
أين تراث ابن رشد الذي تركه في الفقه والأصول “بداية المجتهد”، و”الضروري في أصول الفقه”؟
وأين ما تركه أبو حامد الغزالي في الفقه والأصول “الوسيط في المذهب” و”المستصفى من علم الأصول”؟
وأين ما تركه ابن تيمية في كتابه العظيم “مجموع الفتاوى”؟
وأين ما كتبه ابن حزم الأندلسي “الإحكام في أصول الأحكام” و”المحلى بالآثار”؟ وغيرهم بالعشرات.
كل هؤلاء العلماء كانت مساحة العقل وإعماله واضحة جلية في ثمرات عقولهم، ولهم كتب في الفكر والفلسفة ومقارنة الأديان.
كما أننا لو تأملنا طبيعة بعض العلوم التي أنشأها العقل المسلم لوقفنا على عبقرية هذا العقل، ومدى إفساح المسلمين المجال له عبر القرون ليبدع وينتج ويثمر ويُعمل عمله ويُثمر ثمراته…
مثلاً علم أصول الفقه يعد إنتاجا خاصًّا واختراعًا مقصورًا على الأمة المسلمة؛ فليس لأمة من الأمم ولا لشريعة من الشرائع مثل علم أصول الفقه، وهو آية العبقرية العقلانية المسلمة ودليل اكتمال استثمار طاقاتها.
وعلم القواعد الفقهية يعد استثمارا لمنهج الاستقراء للنصوص الشرعية الذي أنتج هذه القواعد من خلال فروع الفقه، وإذا كان علم الأصول سابقا على الفقه، فإن علم القواعد لاحقٌ له.
أما علم المقاصد الذي أعتبره قاسما مشتركا ليس بين علوم الفقه والأصول فقط بل بين العلوم الإسلامية كلها، وله صلة قوية بكل منها، فهو أوسع وأشمل العلوم في نظري؛ لأنه يعبر عن غايات الشريعة التي نزلت الأحكام لتحقيقها لمصلحة العباد في الدنيا والآخرة، وكل علوم الإسلام يتغيا هذه الغاية، ولهذا نجد لعلم المقاصد صلة قوية بالأصول والقواعد والتفسير والحديث؛ فضلا عن الفقه الإسلامي الذي تعتبر المقاصد روحه ولحمته وسداه.
كما أن علم المقاصد نفسه دليل عبقرية العقل المسلم وآية استثماره؛ لأن وسيلته الأساس هي الاستقراء والاستنباط، وتستخرج المقاصد عبر مسالك مقررة عند أهل هذا الفن، أغلبها يقوم على العقل المُستنِد للشرع.
على أن العقل يجب أن ينضبط بالشرع، ولا يَسْرح –كما قال إمام المقاصد أبو إسحاق الشاطبي– إلا بقدر ما يُسرِّحه الشرع، فإذا كنا نقرأ الشرع بالعقل فيجب أن ينضبط العقل بالشرع.
لماذا بقيت النظرية المقاصدية في إطار الذهن ولا نجدها في واقع الحياة اليومية للمسلمين إلا قليلا؟
يجب أن نعلم أن نظرية المقاصد لم تستخرج لتكون في متناول العوام؛ ذلك أنها علم دقيق، وهو علمُ خاصةِ الخاصة الذين حازوا علوم العربية، وتضلعوا من نصوص القرآن والسنة، وأحاطوا علما بفروع الفقه الإسلامي، وغير ذلك من علوم؛ فهي ليست علمَ عامة ولا خاصة، وإنما هي علم خاصة الخاصة، وحسبنا أن نقرأ قول الإمام الشاطبي عن كتابه الموافقات: “لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد، حتى يكون ريان من علم الشريعة أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مُخْلِدٍ إلى التقليد والتعصب للمذهب”.
ورغم ذلك نقول: إن نظرية المقاصد لا ينبغي أن تظل حبيسة الأدراج، ولا أن تكون حكرا على المختصين، أعني نتائجها وثمراتها وفوائدها، أما العلم بها والتخصص فيها فلأهله ورجاله، ولكل علم رجاله، ولكن ينبغي أن تتعدى ثمرات المقاصد وآثارها وفوائد إعمالها إلى المجتمع، وأن يكون لها دورها الفاعل في حياة الناس، وهذا الأمر – كما أشرت سلفا – يحتاج لجهد كبير، ومجموعات عمل نشطة وكثيرة تنقل المقاصد من مجال التنظير والتأصيل إلى ساحات التفعيل وميادين التشغيل وتديّن الأفراد وحياة المجتمع؛ فإن للمقاصد – إذا تعزز وجودُها في حياة الناس والمجال المجتمعي – آثارا عظيمة وفوائد كبيرة في ضبط حركة الحياة وتحقيق مصالح الناس في مناحي الحياة جميعا.
ولقد بدأت ساحات المقاصد والفكر المقاصدي تخطو خطواتها المباركة في هذه السبيل، ولكنه يحتاج لمزيد من الجهود، والعمل بنشاط وهمة واستمرار؛ حتى يؤتي أكله كل حين بإذن ربه.
كيف يمكن استثمار نظرية المقاصد في تسوية الخلافات البينية للمسلمين؟
للمقاصد أثر كبير جدا في تقليل الخلاف والوصول للوحدة، ليس في الفقه فقط، ولا بين المذاهب، ولا في المسائل المختلف فيها، ولكن في العلوم الشرعية كلها بل في العلوم الإسلامية والإنسانية جميعا.
ولا أكون مبالغا إن قلت: إن تفعيل الفكر المقاصدي من شأنه أن يقلل الخلاف ويقرب وجهات النظر كذلك في الحياة السياسية والحزبية والاقتصادية والثقافية والفكرية والاجتماعية والتربوية والفنية والإدارية، ومجالات الحياة كلها.
وقد استقرأ الإمام ابن عاشور جملة من طرق الانضباط والتحديد في الشريعة المعينة على رفع الخلاف وتقليله حصرها بست وسائل في كتابه مقاصد الشريعة، هي:
الانضباط بتمييز الماهيات والمعاني تمييزاً لا يقبل الاشتباه، كطرق القرابة المبينة في أسباب الميراث.
مجرد تحقق مسمى الاسم، كنوط الحد في الخمر بشرب جرعة من الخمر.
التقدير، كنُصُب الزكوات في الحبوب والنقدين.
التوقيت، كمرور الحول في زكاة الأموال.
الصفات المعيِّنة للماهيات المعقود عليها، كالمهر والولي في ماهية النكاح ليتميز عن السفاح.
الإحاطة والتحديد كمنع الاحتطاب من الحرم عدا الإذخر.
ويبين الإمام ابن عاشور سبب الخلاف بين العلماء، والذي تداركه الفلاسفة وغيرهم، وكان علماء الشرع ـ حسب تعبيره ـ الأولى بذلك، وهي إيجاد قواعد قطعية أو قضايا متفق عليها عند الحجاج والخلاف فيقول: “كانوا لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية، أو قريبة منها، يذعن إليها المكابر، ويهتدي بها المُشَبَّهُ عليه”.
ولهذا كان من رأيه أن مسائل علم الأصول أكثرها ظنية، وهذا الأمر ينعكس على استنباطاتهم، إلى أن يؤدي إلى عدم وجود وحدة رأي أو تقريب حال.
يقول: “فنحن إذا أردنا أن ندوِّن أصولاً قطعية للتفقه في الدين حُق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة وأن نُعيد ذَوْبَها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار النظر والنقد فننفيَ عنها الأجزاء التي غلثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة، ونترك علم أصول الفقه على حاله، تُسْتمَدُّ منه طرقُ تركيب الأدلة الفقهية، ونعمد إلى ما هو من مسائل أصول الفقه مُنزوٍ تحت سُرَادِق مقصدنا هذا من تدوين مقاصد الشريعة، فنجعل منه مبادئ لهذا العلم الجليل: علم مقاصد الشريعة”.
ولهذا يقرر أن الأمة بحاجة إلى هذه النوعية من العلماء التي تهتم بالمقاصد، فيقول: “من أجل هذا كانت الأمة الإسلامية بحاجة إلى علماء أهل نظرٍ سديد في فقه الشريعة، وتمكُّنٍ من معرفة مقاصدها، وخبرةٍ بواضع الحاجة في الأمة، ومقدرةٍ على إمدادها بالمعالجة الشرعية لاستبقاء عظمتها، واسترفاء خروقها، ووضع الهناء بمواضع النقب من أديمها … والأحوال التي ظهرت حاجة المسلمين فيها إلى العمل بعملٍ واحدٍ لا يناسبه ما هم عليه من اختلاف المذاهب. فهم بحاجة في الأقل إلى علماء يُرجِّحون لهم العمل بقول بعض المذاهب المقتدى بها الآن بين المسلمين، ليصدر المسلمون عن عمل واحد. وفي كل هذه الأحوال قد اشتدت الحاجة إلى إعمال النظر الشرعي والاستنباط والبحث عمَّا هو مقصد أصلي للشارع وما هو تبع، وما يقبل التغيُّرَ من أقوال المجتهدين وما لا يقبله.
وإن أقلَّ ما يجب على العلماء في هذا العصر أن يبتدئوا به من هذا الغرض العلمي أن يسعوا إلى جمع (مجمع علمي) يحضره أكبر العلوم بالعلوم الشرعية في كلِّ قطرٍ إسلاميٍّ على اختلاف مذاهب المسلمين في الأقطار، ويبسطوا بينهم حاجات الأمة، ويصدروا فيها وفاق فيما يتعين عمل الأمة عليه، ويُعْلِمُوا أقطارَ الإسلام بمقرَّراتهم، فلا أحسب أحداً ينصرف عن اتباعهم؛ ويعينوا يومئذٍ أسماء العلماء الذين يجدونهم قد بلغوا مرتبة الاجتهاد أو قاربوا”.
كل هذا يدل بشكل واضح على الأثر العظيم الذي تقوم به المقاصد وفكرها في تقريب وجهات النظر، وتقليل الخلاف، والوصول للوحدة الفكرية بين المسلمين.