تحتل نتائج انتخابات التجديد النصفي لمجلس الأمة الجزائري (الغرفة الثانية للبرلمان)، السبت الماضي، أهمية خاصة هذه المرة، لارتباطها بشكل أو بآخر بالرئاسيات المقررة في ربيع 2019، خاصة وأن رئيس المجلس هو بنص الدستور الرجل الثاني في الدولة، ومن يتولى قيادتها (مؤقتًا) في حال شغور منصب الرئيس.
ورغم أن الدستور الجزائري لا يمنح الرئيس المعين (رئيس مجلس الأمة) صلاحية الترشح للرئاسة، فإن هذا المنصب يمنحه دورًا في اختيار “مرشح دوائر القرار” للرئاسة، خلال المرحلة الانتقالية (ما بين شهرين إلى ثلاثة أشهر ونصف من إعلان الشغور).
المفارقة أن حزب جبهة التحرير الوطني (الحاكم)، صاحب أكبر عدد من مقاعد المجلس، لا يترأس مجلس الأمة، وإنما يتولى هذا المركز الحساس غريمه في الحكم؛ حزب التجمع الوطني الديمقراطي، بقيادة رئيس الوزراء، أحمد أويحيى.
وفي ظل الصراع الخفي حول خلافة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة (81 عامًا)، في حال عدم ترشحه لأي سبب من الأسباب، فإن لكل منصب في الدولة أهميته في اختيار “مرشح دوائر القرار” للرئاسة.
وبعد أن أكد المجلس الدستوري، في بيان، صحة النتائج الأولية للانتخابات، إذ حاز الحزب الحاكم على الأكثرية بـ 29 مقعدًا من أصل 47، يليه حزب “التجمع الوطني الديمقراطي” 10 مقاعد، لا يُستبعد أن يسعى حزب جبهة التحرير إلى استعادة رئاسة المجلس، إذا ما تمكن من استمالة الثلث الرئاسي المعين (بعض أعضائه من جبهة التحرير)، وتغيرت موازين القوى داخل دواليب السلطة، التي ما زالت متمسكة بإحداث توازن بين الحزبين “الحاكمين”، لتفادي محاولة “جبهة التحرير” الاستقلال بقرارها بعيدًا عن السلطة.
ويضم مجلس الأمة 144 عضوًا، ينتخب ثلثا أعضائه (96) عن طريق الاقتراع غير المباشر والسري بمقعدين عن كل ولاية (48 ولاية) من بين أعضاء المجالس المحلية، فيما يعين الرئيس الثلث الآخر.
ويتم تجديد نصف أعضاء المجلس (72 عضوًا) كل ثلاث سنوات (48 من المنتخبين و24 من حصة رئيس الجمهورية).
ويشترط في المترشح لهذه الانتخابات أن يكون منتخبًا، سواء في مجلس بلدي أو مجلس ولائي، وأن يبلغ عمره 35 عامًا على الأقل.
فوز أكبر من المتوقع
عادة ما يفوز حزب جبهة التحرير الوطني بالمرتبة الأولى في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الأمة، بحكم أنه غالبًا ما يفوز بمعظم المقاعد المحلية (في المجالس البلدية والولائية).
إلا أن التجمع الوطني الديمقراطي، معروف عنه بشكل غريب حصوله على مقاعد أكبر مما يتيحه له حجمه على مستوى المنتخبين المحليين، وذلك لأسباب منها: التحالفات مع أحزاب صغيرة، وانضباط منتخبيه مقارنة بمنتخبي جبهة التحرير.
وكان من المتوقع أن يتكرر السيناريو نفسه في التجديد النصفي، الذي جرى السبت الماضي، وذلك لسببين رئيسين على الأقل.
السبب الأول هو تراجع نتائج جبهة التحرير في الانتخابات المحلية الأخيرة، في 23 نوفمبر 2017، والثاني هو تغيير قيادة جبهة التحرير، وتعيين رئيس المجلس الشعبي الوطني الجديد، معاذ بوشارب، منسقًا للحزب بشكل مفاجئ.
إلا أن هذين العاملين لم يكونا حاسمين في تقرير النتائج، رغم أن التجمع الوطني الديمقراطي، يتولى رئاسة الوزراء، مما يعطيه أفضلية ولو معنوية، في التأثير على الإدارة، التي طالما اتهمت من أحزاب المعارضة بعدم الوقوف على الحياد التام في مثل هذه المناسبات.
ففي الانتخابات النصفية لعام 2015، فاز حزب جبهة التحرير بـ23 مقعدًا من إجمالي 48 تم التنافس عليها، بينما حاز التجمع الوطني الديمقراطي على 18 مقعدًا، أي بفارق 5 مقاعد فقط عن غريمه السياسي، واعتبر ذلك “فوزا بطعم الهزيمة”.
غير أن هذا الفارق توسع إلى 19 مقعدًا، في انتخابات السبت الماضي، بعدما رفع حزب جبهة التحرير عدد مقاعده إلى 29، وتراجعت حصة التجمع الوطني الديمقراطي إلى 10 مقاعد (من المفترض أن تصل كتلته النيابية إلى 28 عضوًا بحسب إحصاء الأناضول، دون احتساب أعضائه في الثلث الرئاسي).
هذه النتائج تعطي جبهة التحرير موقعًا متقدمًا في حال قررت رئاسة الجمهورية إجراء تعديل على رئاسة مجلس الأمة، في إطار “تسونامي التغييرات”، التي شملت مناصب حساسة في مؤسسات الدولة.
ولم يسلم من هذه التغييرات حتى رئيس المجلس الشعبي الوطني (المنتخب)، سعيد بوحجة، الذي أطيح به من على رأس الغرفة الأولى للبرلمان، قبل أن يستكمل عهدته الدستورية.
وفاز حزب جبهة التحرير في الانتخابات المحلية الأخيرة بـ711 مقعداً في المجالس الولائية (48 ولاية) و603 بلديات (من إجمالي 1541 بلدية)، بينما حصل التجمع الوطني الديمقراطي على 527 مقعدًا ولائيًا و451 بلدية.
وبلغ عدد المسجلين في قوائم التصويت أكثر من 26 ألفاً و18 منتخباً بلدياً وولائياً (في 47 ولاية بعد إلغاء نتائج ولاية تلمسان)، وبنسبة مشاركة وصلت 98.33%، بحسب النتائج المؤقتة التي أعلنها المجلس الدستوري، الإثنين الماضي.
غياب الإسلاميين وبروز حزبين حديثين
على مستوى بقية الأحزاب، حافظت جبهة القوى الاشتراكية (المعارضة) على مقعديها في معقليها بولايتي تيزي وز وبجاية.
وحققت “جبهة المستقبل” (وسط)، بقيادة المرشح الرئاسي السابق عبد العزيز بلعيد، حديثة النشأة، مفاجأة بحصولها على مقعدين لأول مرة، مما يعكس نتائجها الإيجابية في الانتخابات المحلية الأخيرة (71 بلدية و131 مقعدًا ولائيًا).
وكذلك حقق حزب “تجمع أمل الجزائر”، بقيادة الوزير السابق عمار غول (موالاة)، مفاجأة صغيرة هو الآخر بحصوله على مقعد لأول مرة، خاصة وأنه هو الآخر حديث النشأة، وانشق عن حزب إسلامي (حركة مجتمع السلم)، وحصل على نتائج إيجابية في الانتخابات المحلية (31 بلدية و91 مقعدًا ولائيًا على الأقل).
أما الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات فهي الأحزاب الإسلامية، خاصة حركة مجتمع السلم (حمس)، التي لم تتمكن من الحصول على أي مقعد، لا في انتخابات عام 2018 ولا في عام 2015، رغم أنها كانت تمثل القوة الرابعة في مجلس الأمة في سنوات سابقة (بعد جبهة التحرير، والتجمع الوطني، والثلث الرئاسي).
وحصلت حركة مجتمع السلم على عدد غير بسيط من المقاعد في المجالس المحلية (49 بلدية و152 مقعدًا ولائيًا)، لكنها موزعة على عدد أكبر من الولايات، وغير مركزة في منطقة واحدة مثلما هو الحال لجبهة القوى الاشتراكية (64 بلدية و63 مقعدًا ولائيًا).
كما تم تسجيل تراجع طفيف للأحرار (المستقلين) من 4 مقاعد إلى 3، وغياب حزب الفجر الجديد (معارض)، الذي كان مفاجأة انتخابات عام 2015، بحصوله على مقعد حينها، مع أنه يصنف ضمن الأحزاب الصغيرة.
ولا يمارس مجلس الأمة دورًا رئيسا في الحياة السياسية إلا في فترة الأزمات (لديه حق تجميد مشاريع ومقترحات القوانين التي يصادق عليها المجلس الشعبي الوطني)، أو خلال تمثيل رئيس المجلس، عبد القادر بن صالح، لرئيس الجزائر عبد العزيز بوتفليقة، في المناسبات الدولية.
إلا أن الأضواء بدأت تُسلط على المجلس في ظل الرهانات الرئاسية التي تنتظر الجزائر، والمفتوحة على سيناريوهات عديدة تتركز كلها حول إن كان بوتفليقة سيترشح لولاية خامسة أم لا.
والرئيس الحالي لمجلس الأمة عبدالقادر بن صالح، معروف أنه رجل دولة أكثر منه رجل حزبي، وطالما نال ثقة أصحاب القرار، وخالف عدة مرات توقعات بإزاحته من على رأس الغرفة الثانية للبرلمان، إلا أن “تسونامي الإقالات”، واقتراب موعد حاسم في تاريخ الجزائر، يطرح أكثر من تساؤل حول “مستقبل الرجل الثاني في الدولة”.