في هذا الحوار حول الدراما باعتبارها أحد أهم مكونات الفن، التقت «المجتمع» بالمخرج والناقد السينمائي فاروق عبدالعزيز، صاحب الباع الكبير والخبرة الممتدة في مجال النقد السينمائي الفني؛ حيث فتحنا معه الكثير من الزوايا في هذا الموضوع.
هل الدراما في العالم العربي والإسلامي تقوم ببناء القيم أم تهدمها؟
– السؤال ممتاز، ويجسد الواقع الفني الذي نعيشه بالفعل، وللإجابة عن سؤالك، سوف أتحدث من واقع تجاربي الشخصية ومعايشتي للواقع الفني العربي والإسلامي؛ لذا أستطيع القول: إن هناك نسبة تتجاوز 60% تقوم بعملية الهدم للقيم، وإن كان لا يقصد الهدم، ولكن النتيجة أنه يقوم بالهدم بالفعل، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ويرجع ذلك لسببين:
الأول: سوء الصناعة، وهو ما يؤدي إلى هدم الصناعة نفسها، فهو في البداية يعرض قيماً سلبية هائلة، ويختتم بقيمة إيجابية واحدة، والكمية الهائلة من السلبيات المعروضة تؤثر بلا شك في المشاهدين، لأنه ليس كل المشاهدين في مستوى أن ينتظر نهاية العمل حتى تظهر له القيمة الإيجابية، وفي هذا الزحام يتم تسويق القيم السلبية لتلك الشخصيات المجسّدة، وبالذات لدى المراهقين، حيث يتأثرون كثيراً بالقيم السلبية؛ وبالتالي يفشل المراهق في الحصول على رسالة العمل الفعلية، لأن رسالة العمل الحقيقية تظهر في نهاية المشهد؛ لذا فهم يستغلون هذه القيم السلبية للترويج، لأنه -بكل أسف- جاذبة، حتى إن كتّاب الدراما يقولون: لو كانت الشخصيات كلها طيبة، فلا توجد دراما!
إذن لا بد من ظهور شخصيات شريرة، والشخصية الشريرة أثناء ممارستها للشر تكون جذّابة بشكل ما، وأكثر من يتأثر بها هم المراهقون، وهو ما يطلق عليه “التقليد”.
وفي هذه الحالة لا يفرق المراهق بين كون الشخصية إيجابية أم سلبية، ما دام أقرانه منجذبين لها، وكما يقال: “الصاحب ساحب”.
وهناك عدد من المسلسلات الإيجابية ذات القيم الواضحة من البداية، وهي متقنة الصنعة أيضاً، وموجودة في العالم العربي، لكن نسبتها لا تتجاوز 30% وربما 20% من الإنتاج العربي.
أما الإنتاج الإسلامي كما شاهدت وعايشت، فالأعمال الفنية التركية تعد أعمالاً جيدة ومتقنة الصنعة، وفي الوقت نفسه يوجد جانب منها مُدمِّراً جداً، خصوصاً ما يتعلق بالنساء الجميلات، والبيوت الجميلة، في عالم متشابك مع بعضه بعضاً، فالكرة الأرضية صارت في هذه الأيام بمثابة قرية واحدة، وهذه الأعمال الفنية التركية المدمرة هي صورة طبق الأصل للمسلسلات الأمريكية التي كانت في عقد الثمانينيات من القرن الماضي، مثل “داينستي الأمريكية”، ومسلسل “فالكون كرست”، ومسلسل “جي آر”، وغيرها من المسلسلات الهدامة.
فيما يخص الدراما المتعلقة بالتاريخ الإسلامي، هل تصنع قيماً حقيقية أم مشوّهة؟
– الدراما التاريخية بالفعل تصنع قيماً حقيقية، بشرط واحد؛ وهو أن تُكتب كتابة جيدة، والكتابة ليست فقط موافقتها للحقائق التاريخية، ولكن موافقة الشخصيات المجسدة لعلم النفس، بمعنى على سبيل المثال؛ فشخصية مثل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، شخصية تاريخية، له بعض السمات التي نراها من خلال السياق التاريخي؛ فهو الذي أشهر سيفه وأقسم أن يقطع رأس المنافقين، وكان ذلك في مشهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردود أفعاله بها الكثير من الشدة والوضوح، وعدم اللين مع المنافقين والمشركين؛ لذا فحينما نريد تجسيد هذه الشخصية لا بد أن نضعها على المنحنى النفسي الخاص بعلم النفس.
إذاً؛ تدعو لعرض كل شخصية على علم النفس قبل البدء في تصويرها؟
– بالتأكيد، فعلى الممثلين الذين يجسّدون الشخصيات التاريخية أن يدرسوا تلك الشخصيات أولاً، وأن يعرضوها على علم النفس من خلال متخصصين في هذا العلم، كما عليهم أن يكثفوا قراءتهم عن الشخصية، والحمد لله أصبح من اليسير على الممثل أن يلتحق بأي دورة ثقافية أو علمية تتمحور حول علم النفس وأثره في المجتمع، وبالتالي يسهل على الممثلين أداء أدوارهم وتجسيدهم للشخصيات التاريخية بطريقة بارعة ومتقنة.
فالممثل إذا قرأ عن الشخصية التي يريد أن يجسّدها؛ سينعكس ذلك على المشاهدين الذين سيحكمون عليه في النهاية، بأنه متقن وناجح، أو غير ذلك.
والمسلسلات الدينية بشكل خاص يتقبلها الناس؛ لأنها دينية، ولكن أن تترك أثراً إيجابياً عندهم أكثر من الانطباع العام، بأن فلاناً أسلم، وفلانة أسلمت، قليل منها المتقن الذي يؤدي إلى ترك انطباع إيجابي لفترة طويلة، وفي هذا السياق، أؤكد أن مسلسلي “عمر بن الخطاب”، و”قيامة أرطغرل”، هما خطوة للأمام، بعد فيلم “الرسالة” الذي تم إنتاجه عام 1973م، وهو عمل درامي عظيم، وترك أثراً إيجابياً كبيراً، حيث استطاع أن يقدم الإسلام تقديماً جيداً من خلال شخصية سيدنا حمزة رضي الله عنه، وكذلك يوجد عمل فني درامي عظيم جسّد شخصية رجل مسلم مجاهد هو عمر المختار؛ لذا فأعمال الدراما التلفزيونية يجب أن ترقى إلى هذا المستوى.
هل تصطدم الدراما بالفقه الإسلامي؟
– أنا لا أعتقد ذلك، لكن هناك تأويلات خاطئة من بعض الوعاظ قد توحي بذلك؛ فمثلاً عندما ظهرت الإذاعة عام 1932م، صعد بعض الخطباء المنابر -وأنا أقول خطباء وليس فقهاء- فقالوا بتحريم التحدث عبر الإذاعة، ووجهة نظرهم أنها كما تقوم بإذاعة القرآن الكريم والأحاديث والخطب الدينية وغيرها، فإنها كذلك تذيع المسلسلات والأغاني ومجالات اللهو المختلفة، وبعد ذلك التزم الجميع الصمت، بعد أن أطل الشيخ محمد رفعت يرحمه الله بصوته عبر الإذاعة صادعاً بالقرآن الكريم، وبعدها توقف من كان يقول بالتحريم، إما عن قناعة، أو القبول بالأمر الواقع.
هل تخدم الدراما الهادفة القضايا الإسلامية العادلة كفلسطين والروهنجيا، وقضايا القرآن الكريم كالإعجاز بشتى أنواعه؟
– نعم، تستطيع الدراما أن تخدم القضايا الإسلامية المختلفة، بل ومطلوب منها ذلك، والذي أطالب به دائماً أن تهتم الحكومات الإسلامية من خلال وسائل إعلامها بهذا الجانب، باستخدام الدراما الهادفة، ويتم ذلك من خلال شخصيات إسلامية معينة، ومناقشة القضايا التي تتعلق بالمسلمين؛ على سبيل المثال؛ ما الذي يمنع أن نقوم بتصوير مسلسلات درامية في مخيمات الروهنجيا الآن، وعرضها في كل القنوات الإسلامية؟!
كيف تكون الدراما خادمة للدعوة الإسلامية؟
– تخدم الدراما الدعوة الإسلامية من خلال تطبيق خمسة مفاهيم:
1- أن يفهم المنتجُ الدراميُ الوسيط الذي يختاره لخدمة الدعوة فهماً علمياً بما يحتويه من خواص مميزة، سواء كان هذا الوسيط سينمائياً أو تلفزيونياً أو مسرحياً أو أدبياً، إن تلك الوسائط هي نتاج حياة طويلة حققت تراكمات معرفية تستلزم من المنتج معرفتها بالتفصيل، إن تحقيق التمكّن من استخدام الوسيط الفني المختار لن يتم من دون هذه المعرفة.
2- أن يعي المنتجُ حقيقة أنه مهما كانت الرسالة الإسلامية، موضوع عمله الفني، عظيمة وقوية وواضحة بالنسبة له فإن هذا لا يعني بالضرورة أن المتلقي سيستقبلها على الفور كما يبتغي؛ لأن بين “النية” و”النتيجة” فارقاً كبيراً، وقد شاهدنا أعمالاً على مدى عقود تتسم جميعها بنية طيبة، ولكن ما وصل إلينا أخفق في استخدام إمكانيات الوسيط البصري استخداماً صحيحاً ومن ثم أخفق بالتالي في الوصول إلى المتلقين.
3- أن يفهم أن الفن هو نتاج تمازج بين “التثقيف” و”الإمتاع”، ومن ثم فإن أي عمل فني لا بد أن يحتوي على هذا المزيج لكي يصل إلى المتلقين، وهكذا فإن الحفاظ على التوازن الدقيق بين هذين العنصرين سيحقق حتماً إنتاجاً فنياً أفضل.
4- أن يفهم أنه لا وجود لجمهور عريض واحد من المتلقين، فالمتلقون شرائح، ومن الضروري تكييف المُنتَج لكي يتلاءم مع الآليات التي تستقبل بها الشريحة المختارة الرسالة المضمّنة في العمل الفني.
5- أن يفهم ضرورة أن يكون معاصراً متصلاً بأهل هذا الزمان والتحديات التي تواجههم، ويفهم تماماً جوهر الدعوة لا عناوينها العامة، فالإسلام دين مُيسّر لا غموض فيه، وهذا هو نفسه ما تطلبه شرائح المتلقين في عصرنا، وهذا يعني إنتاج أعمال تلبي احتياجات المتلقين اليوم، وتجيب عن تساؤلاتهم مهما بلغت جرأتها.
إذا عُهد إليكم بعمل درامي لمناقشة القضايا العربية، ما القضية التي ستركز عليها؟
– القضية الأساسية التي أرغب في مناقشتها الآن هي قضايا الشباب، فيمكن أن أستقطب نموذجاً من الشباب الموجود في العالم العربي، وخصوصاً الذي تعلّم ودرس وتخرّج ولم يجد العمل الذي كان يحلم به، وبالتالي يعجز عن بناء حياته ومستقبله، وفي الوقت نفسه أربط ذلك بشيوع الإلحاد، هذا هو الموضوع الذي أتمنى أن أشتغل عليه، لأنني أشاهده يومياً، حيث هناك شباب قد تربوا تربية إسلامية صحيحة، ولكن عندما يسافرون خارج الدول العربية والإسلامية يرجعون بعد فترة بعقول مشتتة، وقلوب متذبذبة.
هل يتعمّد القائمون على هوليوود الإساءة للإسلام في وسمهم المسلمين بـ»الدواعش»؟
– يوجد نحو ألف فيلم أنتجته هوليوود عبر مائة عام، فيها إساءات كثيرة وغمز ولمز ضد الإسلام، ولا أستطيع القول: إن الهدف من هذه الأفلام تشويه الإسلام، بل الصورة النمطية للعربي، فهذه الصورة عندهم تمثل الرجل الشهواني الذي يسافر إلى أوروبا جرياً وراء الخمر والنساء، وهو كذلك الرجل المنافق، الذي يصلي بالبيت وفي الخارج تقوده شهواته ورغباته، وإذا تظاهر من أجل فلسطين فهو الرجل الإرهابي! وأشياء من هذا القبيل، وليس غريباً على الإعلام الغربي -وكذلك هوليوود- أن يصف الشباب والأطفال العزل على حدود غزة مع الكيان الصهيوني الذين يموتون كل يوم جمعة بأنهم إرهابيون، مع أن هؤلاء الشباب يتظاهرون بطريقة سلمية مشاهدة عبر كل وسائل الإعلام العالمية، فأصبح القاتل في نظرهم هو الضحية، والمقتول هو الإرهابي! وهذه من المفارقات الغريبة التي نلاحظها في وسائل الإعلام الغربية بشتى أنواعها.