نعيش عصر الصورة بكل ما يحمل معنى الصورة؛ من الاعتبار للشكل في مقابل المعنى، والانجذاب نحو المثير قبل التفكير فيما يحمله من قيمة أو جرثومة، وفي الانصراف من الجوهر إلى المظهر مهما كانت فجاجته الصورية والمعنوية.
إلا أن الأمر يصبح أكثر خطورة عندما يتعلق بالطفل الذي تتشكل شخصيته وفقاً لهذه الصورة، التي أصبح واقعاً في أسرها طوعاً وكرهاً؛ طوعاً بتراجع دور الأسرة في الرقابة على أطفالها، ومن ثم يترك الأطفال أمام شاشات الصورة وما تتضمنه من موجهات متباينة تلقى في تلك البيئة الخصبة (الطفل) بما فيها من قابليات متعددة النزوعات يتشكل لها الوجدان المناسب أو غير المناسب من خلال هذه الصور، ويصبح أكثر كرهاً من خلال ما تمارسه الصورة الملقاة إلى الطفل من إكراهات المثيرات التي تشق نفس الطفل، وتجذبه بل تأسره إليها لدرجة الإدمان النفسي ومحاصرة أشواق الطفل وإلصاقها بعادة الصورة التي يُترك أمامها؛ شاشات التلفاز الهاتف وما يشابههما.
لقد قع الطفل العربي والمسلم بين أسيرين؛ وقت فراغ لا يدري ماذا يفعل فيه، وتكثيف هائل من برامج ومواد إعلامية غربية المنحى والتوجه والقيم وتزخر بكل المثيرات وعوامل الجذب والاحترافية في المضمون والشكل، والأخطر في هذا الأمر أن قنوات الأطفال العربية عندما تقدم برامج أطفال تقوم بتقليد المواد الأجنبية فيما تحمله من قيم ومفاهيم تقدم للأطفال دون مراعاة للتباين البيئي أو الاختلاف الثقافي.
إن معظم قنوات الأطفال العربية تعيد عرض منتجات الأطفال الإعلامية الغربية من كارتون ومسلسلات وأغان ومسابقات وألعاب سحرية وبرامج أطفال إرشادية، دون التحفظ على ما بها من تجاوزات أخلاقية وعقدية، وهذه القنوات تقوم –أيضاً- بعملية دبلجة إلى اللغة العربية، وفي أحيان كثيرة يتم عرض المواد الإعلامية كما هي وبلغتها الأصلية.
كما أن هناك قنوات أطفال عربية أخرى تحاول تقديم مواد إعلامية من إنتاجها، لكن إشكاليتها تكمن في أن العقول الصائغة لهذه المواد والمشرفة على عملية إعدادها، إما أنها غربية تمت الاستعانة بها كخبرة غربية جاهزة، وبالتالي تخرج المواد الإعلامية بصياغة وروح غربية، أو عقول شرقية، ولكنها تتحرك بمنطلقات علمانية متغربة فتجرد المنتج الإعلامي من أي هوية إسلامية أو عربية.
الإغراء والإثارة
المواد الإعلامية الغربية الوافدة إلى عالم الطفل العربي تمتلك من الإبهار والإثارة في أوعيتها التي تقدم بها تلك المواد ما يجعلها حاضرة في ذهن الطفل وفي ذاكرته اليومية، وأشواقه التي يرغب بريّها في الوقت الذي ينتظرها فيه، وهي أوقات إذاعتها المتعددة والمتنوعة عبر قنوات ومواعيد كثيرة تلائم التنوع الجغرافي للعالم الإسلامي واختلاف التوقيتات، وذلك بما تمتلكه من تقنية واسعة، لم يستطع المنتج العربي أن يجاريها فيها، إما لضعف الإرادة أو غيابها، أو لارتفاع التكلفة واستسهال الاستيراد، وهنا تكمن خطورة هذه المواد إذ لا تجد في الساحة من يواجها أو ينافسها في مضمار الاتصال بالطفل المسلم.
كذلك أيضاً فإن الخطورة في ذلك تكمن في أن هذه المواد الإعلامية الغربية والمتغربة –التي تقوم القنوات العربية نقلها- تقوم بنقل الثقافة الغربية بكل ما تحتويه من انحلال وفساد أخلاقي بصورة تلفزيونية تبهر الطفل المتلقي، وهو ما من شأنه تكريس أنماط سلوكية تناقض البيئة الثقافية التي يحيا فيها الطفل (أي البيئة العربية والإسلامية)، فيشاهد الطفل في هذه المواد المقدمة: الاختلاط الواسع بين الذكور والإناث، ومشاهد العري الجسدي، والرقص الخليع، والقتل والسرقة، واحتراف المكائد، وكلها أخلاقيات ترسخ قيم الكذب والغدر والخيانة والانتقام والسخرية وغيرها من القيم السلبية التي تهدم أخلاق المجتمع المسلم(1).
العزلة الاجتماعية
إن الطفل الذي ينشأ بين أحضان الصورة التلفزيونية أو ما يشابهها ذات القيم المناقضة لبيئته الأصلية أو حتى لا يدعمها، ويلتصق بها وجدانياً ومعرفياً في سنوات تشكله الأولى يتجه إلى صناعة عالَمٍ خاص به يعيش بداخله روحاً وفكراً وإن كان بجسده في بيئة وواقع آخر، ومن ثم فأحد الوجوه القيمية السلبية التي تصيب الطفل هو الشعور بالعزلة الاجتماعية، بل ممارسة هذه العزلة، وذاك الانعزال ممارسة واقعية، حيث يرسم عالمه الخاص داخل هذه المواد الإعلامية الوافدة، ويشعر أنها تحقق كل رغباته، نظراً لقصور الواقع الخارجي الاجتماعي من تلبية احتياجاته الشخصية وتنمية قابليات تلك الشخصية، والعزلة الاجتماعية يمكن أن تمتد –في حالة استمرارها وتمددها في حياة الطفل– إلى أن تكون مرضاً اجتماعياً مزمناً يضعف صلة الطفل بواقعه ومجتمعه الذي يعيش فيه بصورة حقيقية بدءاً من الأسرة إلى المجتمع الأكبر.
تقوم المواد الكرتونية –إحدى المواد الإعلامية المقدمة للأطفال- وأشهرها على الإطلاق “توم وجيري” على فلسفة الصراع التي تحكم الحياة الغربية منذ نشأتها الحديثة، التي قامت على مقولة “الإنسان ذئب لأخيه الإنسان وأنه لا يمكن التعاون بين الناس كما يتعاون النمل”(2)، فالصراع هو الفلسفة التي تقوم عليها الرؤية الغربية للعالم، وهذا يتم تصديره على عدة مستويات فكرية وإعلامية، ومنها هذا المسلسل الكرتوني الشهير في العالم كله «توم وجيري».
إن الحالة الحاكمة للمسلسل في حلقاته اللانهائية هي حالة «الصراع» التي تتضمن بطبيعتها كل أشكال العنف والتجاوزات في إنهاء الصراع (الانتصار) الذي يسعى كل طرف من الأطراف إلى جعله لصالحه بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة.
وأشار عديد من الدراسات إلى خطورة مثل هذه المواد الإعلامية؛ فتشير إحدى الدراسات الميدانية التي أجريت على عدد من الطلاب الذين يشاهدون المواد الإعلامية للأطفال أن 46% ينجذبون لبرامج العنف في هذه المواد، و74% يستمتعون بهذه البرامج، و16% يتعجبون لماذا يكره الناس العنف(3).
تحييد القيم
المواد الإعلامية الغربية أو المتغربة التي تقدم للأطفال لا تدعم بحال من الأحوال القيم الأصيلة للمجتمعات العربية والإسلامية، وإنما تنشأ بينها وبين تلك القيم حالة من الصراع الداخلي والخارجي على السواء؛ الداخلي تتعلق بالجانب الوجداني في نفسية الطفل، والخارجي في النزوعات السلوكية المجتمعية، وتسعى هذه المواد الوافدة إلى تحييد القيم الأصلية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
إن ضخّ/تعرُّض الأطفال لمواد إعلامية مخالفة للبيئة والثقافة العربية بما تحمله من قيم وعادات وتقاليد قامت على مرجعية وأصول فكرية مخالفة لهذه المواد الوافدة إلى المنطقة العربية والإسلامية، أمر من شأنه أن يعمل على إبعاد القيم الأصيلة كعوامل مؤثرة في الحركة والسلوك الاجتماعي للأطفال، فهذه المواد الوافدة لا تتقيد بنظام القيم الأصلي، ولا تتماشى مع طبيعته النفسية أو الاعتقادية، والأمر الأخطر هو انسياق الوسائط المحلية التي تتعامل مع الطفل بنفس طريقة الإشباع لرغبات الطفل التي تقدمها هذه البرامج الوافدة في صورة بعيدة تماماً عن دعم القيم الحضارية الأصيلة للطفل ولواقعه النفسي والاجتماعي.
من القيم السلبية التي تتضمنها هذه البرامج والمواد الإعلامية الوافدة تعظيم النزعة الفردية داخل الطفل في مراحله الباكرة، بحيث تتضاءل قيمة التعاون التي هي المرتكز الرئيس في نظامنا القيمي العربي الإسلامي، ومن ثم يظل الطفل يبحث عن كل الطرق لتحقيق إشباعاته بطرق تتجاوز مراعاة الجماعة الاجتماعية، بما يولد شخصية أنانية تتجاوز المجتمع والحاجات العامة والقيم العامة والصالح العام في تطور شخصية الطفل عبر مراحل عمره.
___________
الهوامش
(1) الهيثم زعفان: حروب القيم بين الإعلام الغربي والإسلامي، ضمن تقرير: الأمة في معركة القيم، مجلة البيان، 1432هـ، ص84.
(2) مقولة لتوماس هوبز الفيلسوف الإنجليزي.
(3) مجلة المعرفة، العدد 52، ص16.
(*) أستاذ أصول التربية بجامعة دمياط – مصر.