كان لظهور فنان سوري لاجئ في ألمانيا عارياً على خشبة المسرح، يدعى حسين مرعي، وهو يمثل دوراً في مسرحية بعنوان “يا كبير” أو “يا سيد” ضمن فعاليات أيام قرطاج المسرحية، في تونس، وقْع الصدمة داخل تونس وخارجها، فهو لم يتجرأ على ذلك عندما قدّمت المسرحية في ألمانيا، البلد الذي ظهرت منه دعوات التعري والعري، ويزعم أن أسطورة الأدب الألماني “جوته” من أوائل من دعا إلى التعري بصفته الأصل الحقيقي للإنسان، وفات “الكبير” أن الطبيعة الإنسانية أولاً، والطبيعة المحيطة ثانياً، ومركزية الإنسان الثقافية في هذا الكون ثالثاً هي التي فرضت على الإنسان اللباس، ولكن فلسفة الانقلاب على الواقع والتضاد معه باسم “الحداثة “وراء كل هذه الفوضى.
مما زاد من حدة الصدمة تجاه حالة التعري على المسرح التونسي أن المسرحية الفضيحة أو التي اشتملت على المشهد الفضيحة الذي عرّى فيه المخرج عربياً أمام مشاهدين عرب مموّلة من وزارة الثقافة التونسية، في حين أن الكثير من الأعمال الدرامية التونسية تُصد ويرفع في وجهها بطاقة قلة الإمكانات المالية المتوافرة في الوزارة.
كما زاد من حدة الصدمة التي دفعت الجمهور لمغادرة قاعة العرض، أو بعض الجمهور، دفاع البعض عن الفضيحة، وتصريح ممثلة تونسية بأنها مستعدة للتعري إذا كان الدور يتطلب ذلك.
وذهب آخرون ومنهم مدير المسرح البلدي إلى الدفاع عن المشهد بحكم أنه لم يحمل إيحاءات جنسية مسقطة، بل وصفها بـ»رسالة» أراد بها الممثل التعبير عن انتهاك الحرمات في العالم العربي، ولم يفسر لنا كيف يمكن الاحتجاج فنياً على انتهاك المحرمات.. بانتهاك المحرمات؟! ويطرح السؤال: ما الفرق بين مشاهد الجنس ومشاهد الجنس التعبيري؟ وكيف يمكن التفريق بينهما إذا استخدمت نفس الأدوات وأدت لنفس التأثير والنتائج، مثلاً؟
إنه أشبه بشرب الخمر للسكر، وشرب الخمر بنفس الكمية لإظهار كيف يشعر الشارب، وكيف يتصرف وكيف يراه الآخرون! ثم ما الفرق بين ممارسة جنسية، وأخرى «فنية» في سيناريو عن حالة اجتماعية؟ هل هما مشهدان مختلفان؛ الأول جنسي، والثاني تعليمي، فني، تثقيفي مثلاً؟! وهل يقبل أن تقوم قريباتهم بهذه الوظيفة أو هذه الأدوار؟!
إباحية مقنّعةمنذ عقود والأفلام الجنسية تحصد المليارات، ثم خبا الولع بها في الغرب، ووضعت الكثير من العراقيل أمامها وأمام بثها حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، وهناك دول تلاحق الراغبين في تصوير تلك الأفلام؛ بل هناك جدل لا يزال متواصلاً في الغرب وتحديداً الولايات المتحدة حول مشاهد الجنس في الأفلام.
ويعد الألماني “ريتشارد أو نغيفير” (1869 – 1958م) من المنظرين لفلسفة التعري؛ حيث ألف عام 1903م كتاباً بعنوان “الناس العراة مرة أخرى”، وألّف كتاباً آخر بعنوان “التعري..” عام 1908م، وأسس في العام نفسه “رابطة العراة”، وهي ثاني رابطة للعراة في ألمانيا، وكانت الأولى قد تأسست عام 1898م، وكان وراء دعوته تلك حالته الصحية؛ حيث كان مدمناً على شرب الخمر والتدخين، وكان مصاباً بطفح جلدي، وكان الأطباء يوصونه بأشعة الشمس وبالإقلاع عن التدخين وشرب الخمر.
وكما كانت الأفلام الإباحية الأكثر مبيعاً، كان فن النحت والرسم الذي يظهر جسد المرأة عارياً يلقى الإقبال في القرون من الخامس عشر حتى العشرين، وقد برزت أسماء عديدة في هذا المجال، مثل: “جورجيو باريرلي”، “تيتسانو فيتشليو”، “دييغو رودريغيز”، “أوغست دومنيك”.. وغيرهم.
وفي السينما تم التحايل على الرقابة وعلى المشاهد بإعطاء المشاهد الجنسية في أفلام “البورنو” بُعداً سياسياً واجتماعياً وصحياً يجعل المجتمع يتقبل تلك المشاهد التي تقدمها السينما بأنها تتحدث عن مشكلات المخدرات والجريمة المنظمة، والرقيق الأبيض، والشذوذ والسحاق بين النساء، وتُظهر تلك الأفلام مشاهد من الممارسات الجنسية كأفلام “البورنو” تماماً، ولكن بأكثر احترافية، بل بأكثر إغراء وابتذالاً وتأثيراً سلبياً، لا سيما عندما يتم اختيار نجوم تلك الأفلام الجنسية المقنعة بغلالات سياسية واجتماعية وما شابه.
وقد بدأ ذلك منذ عام 1890م، وقد قامت مجموعات الضغط بجهود كبيرة لمنع تلك المشاهد؛ مما اضطر جمعية السينما الأمريكية عام 1930م لتأسيس ميثاق يشمل معايير الأفلام ذات المحتوى الصالح للعرض، لكن سرعان ما تم تقويضه بعد 4 أعوام فقط، وتم تجاوزه تماماً نهاية ستينيات القرن الماضي، ثم بدأت قناعة لدى السينمائيين بالتخفيف من المشاهد الجنسية في الأفلام، وأصبح العري مسبة وفضيحة، كقول مديرة لموظفة في أحد الأفلام الجديدة: “لماذا تلبسين هكذا كما لو كنت عاهرة؟”.
وأصبح التعري في الأفلام السينمائية الأمريكية موضوعاً يحظى بنقاشات ساخنة بين المختصين في ظل التأثير السلبي على عوائد الأفلام التي تتضمن مشاهد جنسية فاضحة حسب تقييم النقاد السينمائيين الكبار، وأصبحنا نقرأ ونسمع عن بعض السينمائيين ولا سيما الممثلات اللواتي يرفضن تمثيل مشاهد جنس ولم يعد يقتنعن بأن الجنس التعبيري يختلف عن الجنس للجنس، ليس ذلك فحسب، بل أصبح الكثير من الفنانين والفنانات يخشون على سمعتهم وصورتهم في المجتمع، ولم يعد يشفع لهم بأنهم يقومون بتأدية الأدوار بدون مشاعر وأحاسيس خاصة تفرض نفسها بحكم الطبيعة.
التعري كاحتجاجلم يقتصر الأمر على إعطاء التعري والعري مفهوماً فنياً خاصاً في المسرح والسينما والرسم والنحت فحسب، بل تم فرضه بإعطائه بُعداً احتجاجياً واجتماعياً أو سياسياً أو ثقافياً أو نوعياً (النوع الاجتماعي)، أو حتى دينياً كما نرى لدى بعض الديانات كما في الهند، وإن لم يتجردوا تماماً من ملابسهم.
فالتعري كشكل من أشكال التعبير، أو هكذا يتم تقديمه، لا يمكن نكران ضرره على منظومة القيم لدى المجتمع أفراداً ومنظمات، وما علاقة التعري بمقاومة الاعتداء على الأراضي أو الممتلكات أو الاحتجاج على التحرش، أو الدفاع عن حقوق الحيوان كما تفعل منظمة “بيتا” العالمية التي اشتهرت بالتعري لجذب انتباه الرأي العام إلى قضايا حقوق الحيوان، ويحولن أنفسهن إلى مادة للتندر أو حتى للتحرش المغلّظ والإيذاء اللفظي من قبل المتفرجين، ومصدر لإثارة الغرائز أكثر من خدمة القضايا التي تعرين من أجلها.
ومن المفارقات أن المرأة التي تقع في يد الجهات المتنازعة في الحروب أول ما يفعل بها هو تجريدها من ملابسها واغتصابها، كما شاهدنا في رواندا والبوسنة والحربين العالميتين، وهناك حروب تاريخية غلب عليها استعباد المرأة وسميت بذلك كالسبي البابلي على سبيل المثال.
وما علاقة العري بالاحتجاج على المشاريع الحكومية المزمع إقامتها أو بحجة عدم إقامتها، أو التعري لدعم حقوق المرأة، كمنظمة” فيمن” كما رأينا في عام 2008م وما بعدها، وما المقاربة العلمية أو حتى الأسطورية التي تقول: إن التعري هو أفضل وسيلة للاحتجاج، أو لا يمكن التعبير إلا من خلالها؟ والحقيقة أنها ليست إلا وسيلة من وسائل تمييع القضايا، وضرب منظومة القيم التي توافقت عليها الإنسانية في مختلف الثقافات العريقة.
التعري والإباحةوهل هناك فعلاً حدود فاصلة بين التعري بوصفه فناً والتعري بوصفه سلوكاً إباحياً؟ وقد علّق قاض أمريكي على سؤال حول المفهوم القانوني للتعري، وهو القاضي بالمحكمة العليا الأمريكية «بوتر ستيوارت» بالقول: «بإمكاني وصف التعري أو المجون بمجرد رؤيته»، وبذلك تسقط الحدود الفاصلة ويأخذان نفس الحكم.
ويؤكد البروفيسور واختصاصي القانون “بين توينوموغيشيا” صعوبة التفريق بين الاثنين؛ لغلبة الطابع الجنسي على كل منهما، ويقول الخبير السيسيولوجي “جون كونكلين”، المتخصص في علم الجريمة: “التعري الفني وصف يجب إسقاطه عن كل مادة مشتملة على محتوى إباحي سمعي أو بصري، ما دام مثيراً للغرائز الجنسية كغيره”، وتساءل: “ما الفرق بين مشهد زوجة تمارس الجنس الفني في دور تمثيلي، وأخرى تخون زوجها؟”.
يرى البعض أن العري شكل من أشكال التحرر أو الحرية، لكن في عالمنا المعاصر رأينا المستبدين ينادون بالتعري، وما يرتبط به من مجون، وحاربوا -ولا يزالون يحاربون- الاحتشام والالتزام، ولم يروا في العري ثورة بل العكس تماماً حيث كان أحد أسلحتهم، في حين نظر للحجاب على أساس أنه خطر سياسي قبل أن يكون خطراً نمطياً على ما يرغب المستبد والدكتاتور فرضه على المجتمع.
إن السؤال الذي يطرح في أوروبا وأمريكا وأستراليا والغرب اليوم هو: ما الذي يمكن أن يأتي لاحقاً؟ ماذا بعد التعري؟ بالتأكيد كما أثبتت التجربة فإن بعد كل خطوة خطوة أخرى؛ “لقد فتحنا القمقم ولا نعرف حجم المارد، وسط التبجح بالفضائح الجنسية سنسقط يوماً في قاع الحضارات ونكتشف قاعاً أعمق”.