اقترن اسمه بـ”الإمام”، وتقلَّد “قاضي الشريعة” دون أن يكون على منصة القضاء، حاضرًا في قلوب المسلمين ودينهم رغم وفاته قبل 1199 عام، وولد في غزة، ودفن في مصر، التي تشهد حاليا ترميم ضريحه الشهير، وسط القاهرة.
هو أبوعبد الله محمد بن إدريس الشافعي القرشي، المعروف بـ”الإمام الشافعي”، أحد أبرز أئمة أهل السنة والجماعة في التاريخ الإسلامي، وصاحب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي.
ويجمع أهل السنة والجماعة في الإسلام على أربعة مذاهب (الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي)، وجميعهم متفقون على الأصول الفقهية لكنهم مختلفون في بعض المسائل والفروع التي كونت نشأتها.
والإمام الشافعي ثالث الأئمة الأربعة بعد أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس، وكان تلميذًا للإمام مالك وشيخًا للإمام أحمد بن حنبل، رابع الأئمة.
ولد الإمام الشافعي في شهر رجب عام 150 هجرية (أغسطس 767 ميلادية)، واتفق مؤرخو الفقهاء على أنه ولد بمدينة غزة بفلسطين، بينما توفي في مصر في آخر يوم من شهر رجب عام 204 هـ الموافق لـ 20 يناير 820 م.
يعود نسب “الشافعي” إلى أجداد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، حيث قيل عنه إنه “ابن عم النبي”، و”إمام قريش (قبيلة في مكة ينسب إليها النبي محمد) الذي ذكره النبي بقوله: عالم قريش يملأ الأرض علمًا”.
مستشهدًا بما قاله الإمام أحمد بن حنبل بأن الشافعي “كالشمس للدنيا وكالعافية للناس”، يرى عالم أزهري، ما قدمه ثالث الأئمة في تطوير الفقه الإسلامي.
وقال رمضان عبدالرازق، أستاذ الفقه المقارن بمجمع البحوث الإسلامية بالأزهر: إن الشافعي له في رقبة كل مصري تعلم الفقه منة وجميل، فقد علم الناس المنهجية في الفقه الإسلامي، كما علمهم شيء عظيم في الفقه وهو مراعاة الواقع، حيث يتفرد في مذهبه بالقديم والجديد (ما كتبه في العراق وما كتبه في مصر) فعلمنا كيف يكون الفقيه مسايرًا لواقعه دون إفراط أو تفريط.
وأضاف: كما أن أعظم ما تعلمه الناس من فقه الشافعي هو أنه قبل الكلام في أي أمر من الأمور لابد أن يكون هناك علم بالواقع، كما علمنا كثرة المراجعة والتنقيح، فهو كان كثير المراجعة والتنقيح لآرائه ومنهجه وفقهه، وهذا ما نحتاجه في زمننا هذا.
وعن مكانة الإمام الشافعي في البلاد، استدل الأزهري المصري بانتشار مذهبه بين المصريين في المدن والقرى المصرية كما يدرس في المدارس والجامعات الأزهرية، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أن الأحكام الشرعية في مصر تأخذ من كافة المذاهب، ومنها الشافعي، وإن كانت تعتمد بالأساس على المذهب الحنفي.
كما لفت إلى انشغال الإمام في آخر فترة في حياته بتنقيحه لمذهبه بجانب خطابته بمسجد عمرو بن العاص بالقاهرة، إلى ان توفاه الله بعد أن صار له مكانة كبيرة في مصر.
الرَّحال
نشأ الإمام الشافعي فقيرًا في غزة، وحين مات والده انتقلت به أمه إلى مكة حين كان عمره سنتان، لئلا يضيع نسبَه “الشريف”، وحفظ القرآن الكريم في ربيعه السابع، ثم آخذ يلتهم العلم بالقرب من بيت الله الحرام، فأذن له بالفتوى وهو دون العشرين سنة.
ومن مكة إلى المدينة المنورة، بحث الرجل عن المزيد، فوجد ضالته في الإمام مالك بن أنس (ثاني الأئمة الأربعة)، قبل أن يرتحل إلى اليمن ثم بغداد التي درس فيها “المذهب الحنفي (أول المذاهب الإسلامية)”، ليجمع “فقه الحجاز (المذهب المالكي)” و”فقه العراق (المذهب الحنفي)”.
محنة بغداد
نجا الشافعي في عقده الثلاثين، من وشاية كادت تفتك به لدى الخليفي العباسي هارون الرشيد (763: 809 م)، بسبب نسبه والخلاف بين “العلويين (نسبة إلى علي بن أبي طالب ابن عم النبي)” و”العباسيين” وهما جماعتان يعود نسبهما للنبي محمد وكان بينها صراع على الخلافة الإسلامية.
إذ اتهمه والي نجران باليمن آنذاك لدى الخليفة بأنه “بجانب 9 آخرين من العلويين يكادوا يخرجوا على الحاكم”، وقيل فيه إنه “يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه”.
فأرسل الرشيد إليهم وقيل إنه قتل التسعة بينما نجا الشافعي لقوة حجته، واستئناس الخليفة لعلمه، لتكون هذه المحنة قبلة وجهته إلى العلم بدلاً من طلب الولاية.
فقه الشافعي
بعد مكوثه في بغداد، عاصمة الدولة الإسلامية وقتها، انتقل الشافعي مجدداً إلى مكة ليمزج بين “فقه أهل الحديث (الحافظين الملتزمين بأقوال النبي)، ” و”فقه أهل الرأي (أصحاب الرأي والقياس)”، ليبدأ فقه ثالث الأئمة في النضوج.
وخلال إقامته في مكة، بدأ الشافعي في وضع أسس الفقه الشافعي القائم على المزج بين أحكام السنة والقرآن الكريم والاجتهاد في المسائل والأحكام الدينية قياسًا ما لم تكن في القرآن ولا السنة.
ولاحقًا، سافر الشافعي إلى بغداد للمرة الثانية، حاملاً قواعد فقهية كلية، فكان قبلة للفقهاء والعلماء في زمانه، وخلال إقامته هناك أعد النسخة الأولى خلاصة فقهه “كتاب الرسالة”.
والكتاب يضع الضوابط التي يلتزم بها الفقيه أو المجتهد لبيان الأحكام الشرعية لكل حديث ومستحدث في كل عصر، ولما أقام بمصر أعاد الإمام تنقيح الكتاب.
الرحلة إلى مصر
قدم الإمام الشافعي إلى مصر سنة 815 ميلادية ومات فيها في 20 يناير 820 ميلادية، مفسرًا ذلك في بيت شعر قائلا: “لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر، ومن دونها قطع المهامة والفقر.. فوالله ما أدري الفوزُ والغنى أساق إليها أم أساق إلى القبر”.
وفي مصر عرف بالحكمة والبلاغة والشعر، فاقترن اسمه بـ”الإمام” وأسماه فقراؤها “قاضي الشريعة” وأحبوه وظلوا متعلقين بمقامه وضريحه (وسط القاهرة) إلى يومنا هذا، والذي يعد واحدًا من أكبر الأضرحة الإسلامية بالبلاد.
وبمصر، تجسدت أمام عينيه فكرة أن الشرع يدور حيث تكون مصالح الناس، وبمسجد عمرو بن العاص بالقاهرة، جلس مفتيًا مهتمًا باختلاف الناس، فقام بتعديل وتغيير بعض آرائه، فقال عنه الإمام أحمد بن حنبل، رابع الأئمة الأربعة وصاحب المذهب الحنبلي: “خذوا عن أستاذنا الشافعي ما كتبه في مصر”.
مؤلفات الإمام
للإمام الشافعي عشرات الكتب في أصول الفقه، ويعد كتاب “الرسالة” الأول في أصول الحديث، كما ألف كتابًا دافع فيه عن السنة النبوي أسماه “جماع العلم”، كما كتب في أصول الإسلام كالصلاة والزكاة والحج، بجانب فروعه كالطهارة والنكاح والطلاق وغيرها.
وبجانب علومه الشرعية والإسلامية، كان له ديوان شعر، يتناول الحكمة والاستغفار، ومن أبرز أقواله وحكمه: “نعيب زماننا والعيب فينا، وما لزماننا عيب سوانا”، و”تموت الأسد في الغابات جوعًا، ولحم الضأن تأكله الكلاب”.. “وعبد قد ينام على حرير، وذو نسب مفارشه التراب”.
المذهب الشافعي
تعد مصر الموطن الأول للمذهب الإمام الشافعي، ورغم فقدانه صفته الرسمية بالبلاد لصالح المذهب “الحنبلي”، إلا أنه باق بجانب المذهب المالكي في العديد من قرى مصر، ولا يزال يدرس في الجامع الأزهر.
كما ينتشر المذهب الشافعي في كثير من دول العالم وإن كان أغلبها لا يقره رسميًا في القضاء والأحكام.
الضريح الأشهر
للإمام الشافعي ضريح بميدان يحمل اسمه بمنطقة مصر القديمة (وسط القاهرة)، بناه القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي عام 1211م، إكرامًا وتعظيمًا لشأن الإمام.
ويعد الضريح أول مبنى يقام على قبر الشافعي وله قبة تعتبر الأكبر للأضرحة في مصر، بينما كتب على تابوته الخشبي الذي يعلى تربته آيات قرآنية وترجمة لحياته واسم صانعه “عبيد النجار” بالخطين الكوفي والنسخ الأيوبي.
ويبلغ طول الضريح 15 متراً، وجدرانه 2.75 متر وترتفع إلى ما يقرب من 20 مترا فوق سطح الأرض، وبني النصف الأسفل من الجدران من الحجارة والباقي من الطوب، ويحتوي 3 محاريب.
ودفن في ضريح الإمام الشافعي زوجة صلاح الدين الأيوبي الملكة “شمسة”، وابنه “العزيز عثمان” وعدد من مشايخ وأئمة المذهب الشافعي.
ويخضع الضريح حاليًا للتطوير من قبل السلطات المصرية، فيما ينتظر افتتاحه في شهر أبريل المقبل، وفق ما أكده مسؤولون لوكالة “الأناضول”.