انتشر قبل أيام خبر هروب فتاة سعودية قاصر وأكاديمية كويتية إلى كندا وأمريكا، وأعلنت إحداهما الإلحاد، وساعدت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بنشر الخبر؛ وإلا لما علم عنهما أحد، ولكن يا ترى هل سيكون الهروب الأخير؟ وهل هروب الفتيات والإلحاد ظاهرة؟
نظراً للتكتم الشديد على تلك الأخبار التي سمعت عنها منذ أكثر من 15 عاماً، لا نستطيع الحكم على حجمها، إلا أنها حالياً تعد حالات فردية وليست ظاهرة.
وللتكتم فوائد إيجابية بعدم تشجيع ضعاف النفوس لذات الممارسة، وبالمقابل.. فإن كتمها دون دراسة وعلاج ووقاية، فلن يتحقق أي تقدم إيجابي، بل الخوف أن تتحول من حالات فردية إلى ظاهرة جماعية لاحقاً.
يبدأ الهروب في كل مكان في العالم من الحصص الدراسية، ثم من المدرسة، ثم من المعهد والكلية حيث تنعدم الرقابة تماماً، وهذا الهروب مؤقت يلحقه عودة، وإذا لم يجد الهارب من يستوعبه ويعالجه قد يتحول إلى هروب دائم، وأقلها تراجع قيمي وأخلاقي وديني.
وللأسف.. ركزت وسائل الإعلام على أمرين: الهروب والإلحاد، ولم تشرح الأسباب التي أدت لذلك، ولا أعني الأسباب التي أعلنها الهاربون، بل الأسباب الخفية التي تسببت بذلك.
اطلعت على تغريدة للأستاذة حصة العبداللطيف بعنوان “هل صدمكم هروب بعض فتياتنا للخارج؟”، جرتنا معها إلى تغريدات أخرى في سلسلة أسمتها “هروب الفتيات وإلحادهن”، تطرقت فيها إلى بعض الأسباب التي سببت ذلك الهروب أو الإلحاد، من خلال خبرتها الميدانية لربع قرن، بين التعليم والتدريب والإرشاد وزيارة السجون ودار الفتيات، وتقديم تقارير لجهات الاختصاص حول انحراف الفتيات، والأمن الفكري، والقضايا السلوكية والأخلاقية والشذوذ والإيمو والتشبه.. وسأنقل تلك التغريدات بشكل مختصر، مع التصرف والتعليق والإضافة.
بدأت كلامها بصدمتها لسرعة التغيرات المُخيفة في تفكير طالبات الثانوية الفكرية والعقدية، وتقول: لن يتوقف هروب الصغار وإلحادهم إلا بمعالجة حقيقية للأسباب، وأهمها السخرية من الدين والمتمسكين به، والاستخفاف بالثوابت، وهز قيمة العلماء، وتتبع عثرات المصلحين وتضخيمها، وبثها بشكل ممنهج في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، باسم النقد، والكوميديا، في مسلسلات تلفزيونية، ومقالات صحفية، وروايات.. وغير ذلك، وجعلوا النص الشرعي وفهمه وكيفية تطبيقه بمثابة الأكل والشرب واللبس، فالكل يمارس التّذوق والنقد والإفتاء والإلغاء، لأكثر من ربع قرن.
خرج بعدها جيل يتجاهل العلم الشرعي، ولا يملك منهجية التعامل مع النصوص والاختلاف، ولا يملك أدوات الحوار ولا قواعد النتائج، ويعتقد أن نقد النص الشرعي وتأويله بما يراه عقله حق من حقوقه، ثم تكونت لديه حالة “الانتقائية” من الشرائع والأحكام باسم “الوسطية”.
ومن أسباب انحراف الفتيات الظلم الاجتماعي الواقع على المرأة، وهذا أمر ينبغي أن نقر به، فباسم الدين تارة، وباسم العادات والتقاليد السلبية تارة أخرى؛ يقع على المرأة ظلم عظيم، ويورث هذا الظلم الحقد والكراهية لدى الفتيات اللائي يبحثن عن وسيلة للانتقام من المجتمع ولو على حساب الذات.. وهذا ليس على سبيل التعميم، إنما الأسر التي تتعرض للظلم.
ويعد غياب الوعي لدى الأسرة من أهم الأسباب، فقد يظن الوالدان أن توفير المال والملبس والمأكل غاية المنى للأبناء، متناسين الارتباط العاطفي بينهم، وبالأخص بين الأب والبنات، والأم والأبناء، وإشباع المشاعر، والتوجيه التربوي المستمر، دون إهانة أو كسر همم.
ومن الأسباب الأخرى الفراغ وغياب الوعي بالذات، فلا بد من إشغال أوقات الأبناء بما هو مفيد في الأندية الثقافية والرياضية والعمل التطوعي، وتفريغ طاقتهم وتعريفهم بقدراتهم، حتى لا يشعر الابن أنه عدد زائد لا فائدة منه، فيسهل انحرافه وانجرافه.
ومن الضروري تذكير الأبناء بهويتهم الإسلامية الشرقية العربية، خصوصاً عند السفر سواء للسياحة أو العلاج أو الدراسة، وتأهيلهم للمشاهدات المبهرة للعين في تلك البلاد، وقولة هند الشهيرة: “أو تزني الحرة يا رسول الله؟!”.
وما دمنا في بلاد الغرب؛ فليتعرف الأبناء على تاريخهم وحروبهم وأفكارهم المادية، وكيف أنهم تجاوزوها بالعلم الذي أعطاهم القوة والمقدمة، لا بالأزياء والإلحاد، فما زالت الكنيسة هي المرجع، ولها القوة والمنعة، رغم أنهم ضيعوا دينهم وعقيدتهم.
ولا بأس من مشاهدة المشردين (Homeless) والسكارى والمدمنين ليعرفوا جزءاً من واقعهم المرير، وتعريفهم بانحسار الزواج عندهم وتقلص مفهوم الأسرة، لدرجة ألا يرى الابن والديه إلا بالسنة مرة، هذا إذا رآهما.
وليطلعوا على نظام الضرائب عندهم، ومستوى الدخل، وحجم بيوتهم، وحقيقة المساواة بين الرجل والمرأة.. في البيت والراتب والتحرش اليومي والابتزاز الجنسي وحمل السفاح.. وغير ذلك.
وليروا الخواء الروحي الذي يعيشونه بلا دين حقيقي كما هم يقولون، واعتداء القساوسة جنسياً على الأطفال، حتى البابا الأكبر يخضع للوبي الصهيوني، كما أظهرته وسائل عديدة.
ولا ينبغي علينا أن نتناسى الأجهزة المحمولة التي يتعامل معها أبناؤنا على مدار الساعة، دون توعية وقائية قبل استخدامها، ونحن أمام انفتاح إعلامي ووسائل تواصل اجتماعي لا حدود لها، تقابلها أدوات دعائية يقدمها الغرب عالية الجودة والمهنية، تجذب معها الجميع نحو أهدافهم.
تقول أ. حصة: اعتدت مع طالباتي أن أرسم على السبورة دائرة صغيرة واكتب داخلها “دائرة الإلحاد المركزية”، ثم أضعها في دائرة كبيرة بحجم السبورة وأكتب “دائرة مقدمات الإلحاد”، وأكرر عليهن أنه من الصعب أن يقفز الإنسان لدائرة الإلحاد المركزية مباشرة، لكن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، فمقدمات الإلحاد متعددة وخطيرة على العقيدة، تشبه الغابات الاستوائية المتشابكة؛ تتشابه فيها الطرق دون معالم واضحة، فيفاجأ فيها الفرد بين منحدر خطير، وواد مليء بالثعابين، ومستنقعات طينية وأنهار مليئة بالتماسيح.
وهكذا يفعل الشيطان.. يبدأ بالتشكيك بالدين والطعن والسخرية وبث روح الانهزامية، وقاعدة الشيخ له عقل وأنا لي عقل، وتزيين أصحاب الفكر المنحرف لأنه منحرف، رابطاً ذلك بالشهوات الجميلة، ووهم الحرية والمتعة، حتى إذا استسلم سقط واستصعب العودة، فليس له سوى الهروب.
قد ينسى كثير من الآباء الدعاء لأبنائهم، وهو أقل الجهد، فهداية الأبناء هبة من الله ونعمة ليست من صنيع الإنسان، لكن العبد المؤمن يستدرها بطاعة الله، فكم ابتلي الأنبياء بكفر الأبناء والزوجات، لأن ذلك قدر الله بعد بذل الجهد في التربية والتوجيه والدعاء، وفِي كُفر ابن سيدنا نوح عليه السلام مع تربيته وتوجيهه عزاء لكل من بذل واجتهد وابتلي بفلذات كبده.
أسأل الله أن يحفظ أبناءنا وبناتنا من الانحراف بكافة أنواعه، وأن يصلحهم ويثبتهم على الدين، وأن يحسن خاتمتنا أجمعين، ولعل ما حصل يدق جرس الإنذار لدى المسؤولين والآباء للتحرك قبل وقوع الفأس بالرأس، حينها لا ينفع الندم.
__________________________
يُنشر بالتزامن مع صحيفة “أحوال الكويت”.