أرى الوجوم وأثر المفاجأة على وجوه قراؤنا الكرام من عنوان المقال أو من محتواه، وكيف سيتناول فيلم سينمائي منهجية أخلاقية أخذت في التلاشي مع مر السنين، ومع الحرب الضارية على الإسلام وأخلاق المسلمين.
لقد تغيرت أخلاق مجتمعاتنا في الفترات الأخيرة، حيث لا يكن للأخلاق مساحة في مناهجنا التربوية، أو مساجد أوقافهم، أو حياة الشعب الواقعية، حتى الأفلام التي تعرض يكثر فيها العري والمخدرات والخلاعة، والتسابق على إظهار أكبر قدر من جسد الفتاة، والمتاجرة بها. لقد ابتليت كثير من الدول الإسلامية، بصراع بين الفضيلة والرذيلة، بين أخلاق الإسلام وأخلاق الغرب.
وهذا لم يكن موجود بهذه الصورة في الماضي على الرغم من وجود الاستعمار القابع على جسد الأمة من شرقها وغربها، وسياسة دانلوب التعليمية والتي دمرت كثير من النشء، إلا أن المجتمعات كانت تحتفظ بكثير من أخلاقيات الإسلام، وشهامة ولاد البلد، وهذا ما سنراه من خلال الأخلاق التي أبرزها فيلم “حياة أو موت” والذي أنتج عام 1954م حيث كان الشعب ما زال لديه أثر من خلق.
الفيلم الذي شارك فيه الفنان يوسف وهبي كحكمدار العاصفة، وحسين رياض كطبيب الصيدلية، وعماد حمدي كمريض، نقلوا صورة أخلاقية لما كان يعيشه الشعب – في تجسيد لواقع الأمة كلها وليس المجتمع المصري فحسب – وكيف كان الجميع يحترم أخلاقيات مهنته، هذه الأخلاقيات التي ضاعت الآن في كل مؤسسة وعلت لغة الرشوة والمحسوبية والوساطة.
يبدأ الفيلم بمريض يسكن في دير النحاس يرسل ابنته لجلب دواء من ميدان العتبة، وهناك يخطأ الصيدلي في تركيب الدواء والذي يتحول فيه الدواء لسم قاتل، ويكتشف ذلك بعد مغادرة الفتاة الصيدلية، فيأمر مساعده بالخروج مسرعا للبحث عن الفتاة، فنشاهد مدى اهتمام المساعد بالبحث عنها في كل مكان، وحينما يعود للصيدلي بخفي حنين، نرى الوجوم والهم والغم قد كسى وجه الصيدلي (حسين رياض) ويسأل مساعده ما الحل؟ فالمريض ما أن يتناول الدواء إلا مات، سأذهب لتسليم نفسي.. لقد كان كل خوف الصيدلي على حياة انسان لا يعرفه، حتى أنه لن يعاقب على خطأه، لكن الضمير التي تربى عليها وأقسم عليها اليمين – وهذا على خلاف ما نجدهم اليوم – بل أنهم اليوم يقدمون الموت للمرضى سواء بأدوية المخدرات أو ارتفاع الأسعار مما يعجز عنه المريض، أو الغش في الأدوية، وهدفهم الأول الربح فقط، ولغتهم التي تتعالى لو مات واحد فلدينا ملايين.
حينما لم يجد الصيدلي سبيل تذكر الروشتة واسم الطبيب المعالج لعله يعرف عنوان المريض، فيتصل بعيادته فيخبره الممرض أنه في المستشفى، فلا يكتفى بذلك فيتصل بالمستشفى وتهتم الممرضة بالاتصال، وتسرع فتجده في غرفة العمليات فتنتظر حتى خرج واخبرته فأسرع ليرد على الصيدلي والذي سأله على اسم الدواء فسجله وأستأذنه في دقائق يصل العيادة، وبالفعل وصل العيادة واتصل بالصيدلي ليخبره أن هذا الدواء كتب لاثنين ويعطيه عناوينهم، فيتصل بالأول فلا يجده المقصود، ولا يجد للثاني تليفون (أحمد إبراهيم) فيسرع ويستقل تاكسي ويذهب للعنوان فيجده قد نقل عنوانه ولا أحد يعرفه، فيسرع إلى قسم الشرطة ليبلغ لكي يجدوا وسيله للوصول للمريض، وحينما وجد بعض التراخي، لم يتوقف بل استقل التاكسي وسارع للمحافظة حيث حكمدار العاصمة (مساعد مدير الأمن)، لكنه وجد المكان كخلية نحل بسبب هروب مجرم كبير والوزارة مشغولة به، لكنه أصر على مقابلة الحكمدار وبعد حوار حول هوية المريض، وحالة اليأس التي كست وجوه مساعدي الحكمدار من هذه القضية البسيطة – في نظرهم – لكنها أصبحت كبيرة في نظر الصيدلي والحكمدار (إنها حياة إنسان).
يتصل الحكمدار بقسم مصر القديمة لتخرج القوة تبحث عن أحمد إبراهيم، وفي مشهد تجد استنفار الضباط والعسكر للبحث عنه، وحينما لم يفلحوا، يبدأ التفكير في طريق ووقت الفتاة، فيتصل بقسم الموسكي ليخرج كونستابل (مساعد شرطة) ليسأل عن طريق الفتاة، وحينما تأكدوا انها لن تعود راكبه التيرام، يتصل الحكمدار بوحدة الاشارة بالوزارة التي ترسل بيان الحكمدار لشرطة النجدة بالبحث عن فتاة تحمل زجاجة دواء في عمر 8 سنوات، وفي مشهد ترى سيارات النجدة في الشوارع تبحث عن أي فتاة بهذه الموصفات ويتم القبض عليهن، وحينما لم يجدوا الفتاة المقصودة يأمر الحكمدار بأن يفرج عن الفتيات على أن يصطحبهن كونستابل لبيوتهن.
وحينما لم تفلح كل هذه السبل في العثور على الفتاة يزداد رعب الصيدلي والحكمدار فتتحرك كثير من قوات الشرطة على أي عنوان يشتبه يكون فيه المريض بعد الاستعانة بمشايخ الحارات لخبرتهم في معرفة السكان.
ويستمر البحث مع مرور الوقت ويتحول كل شرطي في الشارع في مهمة البحث عن الفتاة، وحينما لم يجدوا سبيل، سارع الحكمدار إلى دار الإذاعة وقطع الفقرة الغنائية الموجودة، وأذاع بيانه ليصل لكل فرد في الوطن [من حكمدار العاصمة إلى أحمد إبراهيم القاطن في دير النحاس، لا تشرب الدواء الذي أرسلت ابنتك في طلبه، الدواء فيه سم قاتل، ومن يتعرف على المدعو أحمد إبراهيم يتصل فورا بالحكمدارية]، وتنطلق الاذاعة بالبيان في كل بيت، حيث لم تكتف الاذاعة بإذاعة البيان مرة واحدة لكن ظلت تكرر حتى كلل هذا الجهد وهذه الأخلاق بالنجاح واستطاعوا أن ينقذوا حياة إنسان.
لقد تجسدت الأخلاق في الطبيب الصيدلي والطبيب المعالج، وتجسدت في رجل الأمن الذي كان يرفع من قيمة الإنسان قبل أن تنهار في منظومته فيصبح في نظره عبدا له، ودمه لا قيمه له.
لقد فقدنا هذه الأخلاق في المستشفى، كما فقدناها في القسم، كما فقدناها في المؤسسات، حتى الشارع ضاعت منه هذه الأخلاق، بل فقدت بين الجيران، بل بين الزملاء، بل قل بين الأصدقاء والأهل والأقرباء.
أصبح الشاب يقتل والده أو أخوه لمجرد خلاف، وأصبح قتل العائلة بأكملها نسمعها وكأنها أصبحت من الأخبار العادية المتداولة، بل انتشر زنا المحارم وقتلهم، بل ضاعت كل روح بيننا.
أين نحن وماذا ننتظر؟
هل ننتظر أن يرفع عنا الله سبحانه البلاء؟
أم ننتظر أن يرسل علينا صاعقة من السماء فتأخذ المحسن والمسيء على السواء، قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً}(الأنفال: 25).
ما الدوافع التي تحول بيننا وبين الالتصاق بحسن الخلق، وشيم الصفات؟
ما العوامل السلبية التي تجعل كل فرد يتباهى بفساده أو سوء أخلاقه بين الناس؟
لقد نقل لنا الفيلم صورة من أخلاقيات المجتمع الذي كان يتحلى بها، ووضع لنا الواقع – كما تنقل لنا أفلام كل عصر واقعها – فأين ذهبت هذه الروح وهذه الأخلاق؟