شهد العراق الصيف الماضي أزمة مياه حادة وصفها بعض الخبراء بأنها أخطر أزمة جفاف عرفها العراق منذ عدة عقود، خصوصاً في الجنوب منه وتحديداً في البصرة، وهو ما فتح الباب أمام المختصين والباحثين ليدلوا بدلائهم في هذا الملف الحيوي والحساس بأي دولة من الدول؛ تشخيصاً للداء ووصفاً للدواء.
المتتبع لأزمة المياه في العراق يجد لها جوانب متعددة؛ حيث تنوعت أسبابها ما بين سياسية وأخرى بيئية وثالثة مجتمعية؛ فقد أرجع بعض المحللين الأمر إلى ملء السدود المائية التركية والإيرانية، بالإضافة إلى شحة كبيرة مفتعلة في مياه نهر الكارون من إيران مع زيادة نسبة ملوحته بسبب التخلص من ماء الري الزائد عن الزراعة فيه؛ وهو ما تسبب في قلة مستوى المياه الحلوة التي تصب في شط العرب، فأدى إلى دخول المياه البحرية المالحة من الخليج إلى شط العرب، وتسبب ذلك في صعوبة حصول أهل البصرة على مياه شرب نقية.
كما أضاف الخبراء أن مياه الصرف الصحي في البصرة والمناطق القريبة تصب في النهر وشط العرب بسبب عدم صلاحية محطات معالجة مياه الصرف الصحي الموجودة، وعدم عملها؛ مما تسبب في تفاقم الأزمة.
ويرى بعض المحللين أن أزمة المياه الحلوة حقيقية في جنوب العراق -خصوصاً في البصرة- وأن سوء الإدارة والاستخدام من الأسباب التي أدت إلى تفاقم الأزمة وتداعياتها.
وحسب المتابعين، فإن البعد السياسي في الأزمة ما زال حاضراً بقوة؛ حيث أدى توقف تزويد إيران للعراق بالطاقة الكهربائية، وخصوصاً في البصرة التي تعتمد في أغلبها على كهرباء إيران إلى تفاقم الأزمة بصورة كبيرة؛ حيث أرجع بعضهم ذلك إلى محاولة إيران من وراء ذلك التدخل في الانتخابات البرلمانية وتشكيل الحكومة العراقية، ولكن بعد تشكيل الحكومة ودخول فصل الشتاء حصلت زيادة واضحة في مياه الأمطار بالعراق والمنطقة؛ وهو ما كان له أثر واضح في تجاوز أزمة المياه ولو بصورة مؤقتة، حيث يمكن عودة الأزمة مجدداً في الصيف القادم مع تجدد أسبابها.
أسباب بيئية ومجتمعية
وبالإضافة إلى الأسباب السياسية آنفة الذكر، يرى بعض المتخصصين أن نهري دجلة والفرات يعانيان من عدة مشكلات، منها كمية المياه ونوعيتها بسبب ارتفاع نسبة الملوحة فيهما، التي تسبب فيها التجاوز والتعديات على جوانب النهر، بالإضافة إلى الترسبات والتلوث.
كما أن عدداً من البحوث والدراسات التي أجريت حول الجفاف أرجعت الأسباب إلى بعض الآثار البيئية والمجتمعية مثل تغير درجات الحرارة، ونسبة الرطوبة، والثروة السمكية والحيوانية (خاصة الجاموس) ومنتجاتها، وكذلك سقي حيوانات الرعي، وهجرة سكان الأهوار إلى المدن، وزراعة القصب المستخدم في صناعة الورق.
وحول دور السدود في حل هذه الأزمة، أقر المختصون أن السدود موجودة وتم إقرار بنائها منذ الأربعينيات؛ حيث تم وضع تصميم منظومة الري من قبل الخبراء البريطانيين والروس والإيطاليين بعد عام 2006م، وأكدوا أن السدود تعد ضمن حدود الكفاية للعراق، إلا أن إضافة سدود أخرى ستحسن من منظومة الري هناك.
لكن بعضهم يرى أن التفكير ببناء المزيد من السدود حالياً أصبح غير اقتصادي، وأن المطلوب الآن معالجة مشكلات الصيانة، وتشغيل السدود أكثر أهمية من بناء سدود جديدة؛ حيث ذهبوا إلى أن الموازنة المخصصة للموارد المائية غير كافية في ظل غياب النظام والقانون وعدم وجود إستراتيجية أو خطط متعددة المراحل؛ فأصبح العمل عشوائياً منذ عام 2003م.
وحول نسبة التلوث وأسباب ارتفاعها، أرجع المتابعون السبب في ذلك إلى غياب القانون؛ حيث أقروا أن التلوث موجود في كل دول العالم، لكن القانون له الدور الأكبر في الحد من التجاوز فيه، وقد فاقم من الأزمة بالعراق غياب القانون في الفترة الأخيرة؛ حيث تعرضت الأنهار للتجاوز، وتم بناء المنشآت داخل مجرى النهر مثل السماوة الذي تم بناء ملعب كرة قدم فيه وأحواض الأسماك، ومدائن الألعاب في بغداد، كما تم تصريف المياه الثقيلة ومخلفات المعامل والأنقاض داخل حوض النهر، كل ذلك بسبب انعدام تطبيق القانون.
تأثر الزراعة
الزراعة من المجالات لصيقة الصلة بملف المياه؛ فبسبب ارتفاع أسعار الطاقة الكهربائية والوقود للنقل وقلة الأمطار وشح المياه وتبوير الأراضي الزراعية بالعراق، أصبح سعر المنتجات الزراعية أغلى من المستورد؛ لذا توقف الفلاح عن الزراعة، وهاجر إلى المدينة أو انخرط في قوات الأمن المختلفة لحمل السلاح ليحصل على دخل شهري جيد ومؤمّن.
ولكن بقيت زراعة الشلب -وهي الظاهرة العشائرية في محافظتي النجف والديوانية- التي تستهلك كميات مياه تساوي 15 ضعف المحاصيل الأخرى، وبسبب رداءة نوعية المياه والأرض انحدر المنتج تدريجياً للأسوأ ثم الأقل سعراً، إلا أن الغالبية يزرعون تحت ضغط العرف والتقليد العشائري، رغم أن لديهم مصادر دخل أخرى تدر عليهم أضعاف ما يتحصلون عليه من الزراعة.
وحسب الخبراء، فإن ميزانيات الزراعة في العالم أجمع لا تزيد على 10%، والعراق ليس بعيداً عن ذلك، ومهما تأثرت كميات المياه المخصصة للزراعة فلا خوف على كميات مياه الشرب والاستعمالات اليومية والأغراض الصناعية.
إن الذي يحدث الآن هو تحويل البترول إلى منتجات زراعية، ومع انخفاض أسعار النفط وازدياد إمكانيات استخدام الطاقة النظيفة، وتطور البحوث لبدائل الطاقة، سينخفض الطلب على البترول خلال السنوات العشر القادمة، وسيضطر العراق إلى العودة للزراعة المحلية بدلاً من الاستيراد؛ فالحل الآن –حسب المتخصصين- وضع خطة لتغيير السلوك الخاطئ في استخدامات المياه.
مقترحات علاجية
وبعد تشخيص الأزمة بجوانبها وأسبابها، اقترح المختصون بعض الحلول لها؛ مثل معالجة المياه، فعادة ما يتم استخدام المعالجة لغرضين؛ أولهما لمنع التلوث، والثاني لتوفير وسد الاحتياجات بسبب قلة المصادر؛ لذا دعوا إلى وضع دراسة مستفيضة متزامنة مع زيادة السكان، والحصول على الجدوى الاقتصادية قبل ذلك، ورأوا أن نتائج مشاريع المعالجة من قبل وزارة البلديات وأمانة بغداد متدنية ولا تتناسب مع المبالغ التي تُصرف عليها.
كما دعوا وزارة الموارد المائية إلى القيام بدورها في السيطرة على نوعيات وكميات المياه ومن ضمنها الآبار من باطن الأرض، ثم توزيعها حسب احتياجات أغراض الشرب والسقي الزراعي والحيواني، والأراضي الإنتاجية مثل استخراج النفط، وتبريد محطات توليد الكهرباء، والأغراض الصناعية الأخرى.
وبحسب الخبراء والمختصين العراقيين، فإن المطلوب حالياً ضمن الموازنة المائية التي تمنحها الدولة للوزارة الحفاظ على تشغيل وصيانة مشاريع الري الحالية، واتخاذ الإجراءات اللازمة للمشاريع الطارئة مثل الشحة والفيضان وزهرة النيل والشمبلان.
كما رأوا أن كميات المياه الواردة سنوياً قد تكون معقولة، إلا أن طرق الاستخدام مخالفة؛ بسبب الإسراف دون مبرر في كافة المجالات.