جاء الإسلام ليشرع للناس ما يحفظ معاشهم ويفيدهم في معادهم، وليس أكثر من الماء أهمية للحياة واستمرارها؛ فبدونه تهلك الكائنات الحية وتتوقف الحياة، ونظراً لخطورة الأمر وأهميته أولى الإسلام الماء عناية كبيرة؛ فوضع من التشريعات والآداب ما يحفظ الماء من الهدر، ويرشد استخدامه، ويضمن عدالة توزيعه بين الناس، وينوع مصادر استخراجه، ويحفظ نظافته وسلامته.
من التشريعات والآداب التي تحفظ الماء من الهدر:
أولاً: التذكير بأهمية الماء للحياة:
حرص الإسلام -في عشرات الآيات التي ورد فيها لفظ الماء- على إبراز أهيمته في الحياة؛ حتى يحرص الناس عليه حفظاً لحياتهم ومعاشهم وابتغاء رضوان ربهم.
فقد أبرز القرآن أن الماء أصل الحياة على هذه الأرض، فقد أخبر سبحانه عن ذلك في قوله تعالى: ﴿ أَوَ لَمۡ يَرَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَنَّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ كَانَتَا رَتۡقٗا فَفَتَقۡنَٰهُمَاۖ وَجَعَلۡنَا مِنَ ٱلۡمَآءِ كُلَّ شَيۡءٍ حَيٍّۚ أَفَلَا يُؤۡمِنُونَ ٣٠﴾ (الأنبياء)، وقال عز من قائل: ﴿وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٖ مِّن مَّآءٖۖ فَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ بَطۡنِهِۦ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰ رِجۡلَيۡنِ وَمِنۡهُم مَّن يَمۡشِي عَلَىٰٓ أَرۡبَعٖۚ يَخۡلُقُ ٱللَّهُ مَا يَشَآءُۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ﴾ (النور)، وقال عز وجل: ﴿وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ مِنَ ٱلۡمَآءِ بَشَرٗا فَجَعَلَهُۥ نَسَبٗا وَصِهۡرٗاۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرٗا ٥٤ ﴾ (الفرقان).
ومن مظاهر إبراز أهمية الماء في القرآن الكريم أيضاً قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَا مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءَۢ بِقَدَرٖ فَأَسۡكَنَّٰهُ فِي ٱلۡأَرۡضِۖ وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابِۢ بِهِۦ لَقَٰدِرُونَ ١٨﴾ (المؤمنون)؛ فالشيء المنزل بـ”قدر” هو الشيء العزيز الغالي الذي يجب الحفاظ عليه، خاصة مع التهديد الإلهي الذي يُستشف من قوله تعالى: ﴿وَإِنَّا عَلَىٰ ذَهَابِۢ بِهِۦ لَقَٰدِرُونَ ١٨﴾؛ فإن لم تحافظوا على هذه النعمة فإننا قادرون على سلبها منكم، ثم في الآية التالية يشير سبحانه إلى النعم الحاصلة من هذا الماء –كما هي الحال مع كثير من الآيات التي تحدثت عن نزول الماء- فيقول تعالى: ﴿فَأَنشَأۡنَا لَكُم بِهِۦ جَنَّٰتٖ مِّن نَّخِيلٖ وَأَعۡنَٰبٖ لَّكُمۡ فِيهَا فَوَٰكِهُ كَثِيرَةٞ وَمِنۡهَا تَأۡكُلُونَ ١٩﴾ (المؤمنون).
ويأتي هذا التهديد واضحاً في قوله تعالى: ﴿أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلۡمَآءَ ٱلَّذِي تَشۡرَبُونَ ٦٨ ءَأَنتُمۡ أَنزَلۡتُمُوهُ مِنَ ٱلۡمُزۡنِ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنزِلُونَ ٦٩ لَوۡ نَشَآءُ جَعَلۡنَٰهُ أُجَاجٗا فَلَوۡلَا تَشۡكُرُونَ ٧٠﴾ (الواقعة).
ثانياً: النهي عن الإسراف:
الإسلام دين الوسطية؛ فهو ضد الإفراط والتفريط، وقد حارب الإسلام الإسراف والتبذير في كل شيء، قال تعالى: ﴿وَلَا تُسۡرِفُوٓاْۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِينَ ٣١﴾ (الأعرف)، وقال سبحانه: ﴿وَلَا تُبَذِّرۡ تَبۡذِيرًا ٢٦ إِنَّ ٱلۡمُبَذِّرِينَ كَانُوٓاْ إِخۡوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِۖ وَكَانَ ٱلشَّيۡطَٰنُ لِرَبِّهِۦ كَفُورٗا ٢٧﴾ (الإسراء).
ومن مظاهر محاربة هذا التبذير والإسراف هَدْي النبي صلى الله عليه وسلم مع الماء، وهو النهي عن الإسراف فيه، حتى لو كان المرء على نهر جار يكثر فيه الماء؛ فقد روى عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ، فقال: “ما هذا السرف يا سعد؟”، فقال: وهل في الماء سرف يا رسول الله؟ قال: “نعم، وإن كنت على نهر جار” (رواه ابن ماجة).
ولم يكتف صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر بلسان المقال، بل أضاف له لسان الحال؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بنحو المد، ويغتسل بنحو الصاع”، وعن سفينة مولى أم سلمة قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوضيه المد ويغسله الصاع” (رواه الدارقطني).
فإذا كان هذا الأمر في مجال من أجلِّ المجالات التي يُستخدم فيها الماء وهو العبادات؛ فإن الأمر يكون أولى وأوجب في غيره من المجالات.
ثالثاً: النهي عن احتكار الماء:
نظراً لأهمية الماء في الحياة، وخوفاً من استغلال طائفة من الناس له دون غيرها والتحكم فيه، حرص الإسلام على منع احتكار الماء؛ حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والنار والكلأ» (رواه أبو داود، وابن ماجة، وأحمد)، وفي رواية عند أبي داود: «الناس شركاء في ثلاث..»، فعمّ الناس كلهم، ولم يقصره على المسلمين.
ويعلق على هذا الحديث صاحب «شرح بلوغ المرام» فيقول: «جرم الماء السائل الشفاف هو الذي لا يُباع، وإذا زاد عن حاجتك فأعطه لغيرك، ولكن هذا من باب الإرفاق، وليس من باب الوجوب؛ فلو كان الماء جارياً في الوادي، ويمر على بلدك، أو على مزرعتك؛ فخذ حاجتك، ولا تبع الباقي، ولكن أرسله إلى مَن وراءك، وهكذا لو وجدت غديراً في الأرض (حفرة بها ماء) وليست ملكاً لك؛ فلا تملك أن تبيعها، ولو كانت في ملكك فلا تمنع أحداً يحتاج أن يأخذ الماء ما دام زائداً عن حاجتك».
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: «لاَ يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ؛ لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلأَ» (رواه البخاري ومسلم)، قال ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري: «نهى أن يُمنع الماء، لئلا يُتذرع بذلك إلى منع الكلأ».
رابعاً: الحث على التصدق بالماء:
لقد بلغ اهتمام الإسلام بسقي الماء مبلغاً عظيماً؛ حيث حث على سقاء الغير، وجعل ذلك الفعل من باب الصدقة التي يؤجر فاعلها، كما يؤجر حينما يتصدق من أمواله؛ بل جعله أفضل الصدقة، عن النفس أو الغير؛ فقد روي عن سعد بن عبادة قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: «نعم»، قلت: أي الصدقة أفضل؟ قال: «سقي الماء» (شرح الزرقاني 3/ 74).
وروي عن طاووس عن ابن عباس -أظنه رفعه (شك ليث)- قال: «في ابن آدم ستون وثلاثمائة سلامى أو عظم أو مفصل، على كل واحد في كل يوم صدقة؛ كل كلمة طيبة صدقة، وعون الرجل أخاه صدقة، والشربة من الماء يسقيها صدقة، وإماطة الأذى عن الطريق صدقة» (صححه الألباني).
بل ويتجاوز الأمر سقي الآدميين إلى سقي الحيوانات؛ فعن أبي هريرة، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما كلب يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كاد يقتله العطش، إذ رأته بَغِيٌّ مِنْ بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقَهَا، فسقته، فَغُفِرَ لها به» (اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان).
خامساً: الترغيب في حفر الآبار:
يُعد حفر الآبار ليشرب منها الناس والأنعام والطير باباً من أبواب التصدق بالماء الذي حث عليه الإسلام؛ فعن جابر بن عبدالله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ حَفَر ماءً لم تشرب منه كبد حرَّى من جنٍّ ولا إنسٍ ولا سَبعٍ ولا طائرٍ إلا آجره الله يومَ القيامة» (جامع العلوم والحكم، وصحيح ابن خزيمة)، وقد روي أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من حفر بئر رومة فله الجنة»، فحفرها عثمان رضي الله عنه (صحيح البخاري).
ويُعد توفير برادات الماء في المساجد والشوارع والأماكن العامة تطبيقاً معاصراً للتصدق بالماء في مقابل حفر الآبار قديماً، كما أن هناك بعض الدول في أفريقيا ومثيلاتها هي أشد ما تكون حاجة لحفر هذه الآبار.
سادساً: التشديد في النهي عن تلويث الماء:
نظراً لأهمية الماء في الحياة، وإدراكاً لخطورة تلوثه على المخلوقات، استبق الإسلام العلم الحديث والطب الوقائي في التعامل مع هذا الأمر؛ حيث نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الراكد» (صحيح مسلم، وابن ماجة)، بل وفي رواية للطبراني أنه صلى الله عليه وسلم نهى أن يبال في الماء الجاري.
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن «يبول الرجل في مُستَحمه» (رواه أبو داود)، وقال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الماء وفي الظل وفي طريق الناس» (رواه ابن ماجة).
ويعد النهي عن البول والتبرز في الماء من أكبر أنواع الوقاية للماء من انتشار الأوبئة مثل البلهارسيا وغيرها من الأمراض التي قد تصيب من يضطر لاستخدام هذا الماء بعد ذلك.
ومن هديه صلى الله عليه وسلم تغطية الآنية التي فيها طعام أو شراب حتى لا تتعرض للتلوث والأذى؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «غطوا الإناء، وأوكوا السقاء؛ فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء» (صحيح مسلم).
بل وبلغ حرصه صلى الله عليه وسلم في الحفاظ على نظافة الماء أن نهى عن النفخ في الشراب، وأن يكون التنفس أثناء الشرب خارج الإناء الذي يشرب منه، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب من السقاء مباشرة؛ حرصاً على عدم تلوث الماء من فم الشارب، خاصة إذا تبقى في الإناء شراب آخر لغيره؛ حتى لا يؤذيه.